|


أحمد الحامد⁩
كلام ويك إند
2023-06-03
بعد أقل من ساعة سألتقي بزميل عزيز، كان آخر لقاء بيننا منذ 9 سنوات، بدا من كلماته ومستوى صوته في المكالمة التي حددنا فيها المكان أنه اختلف كثيرًا، كان هادئًا، أو متعبًا، لم أعرفه بهذا الهدوء أبدًا، حتى في المكالمات الهاتفية كان صاخبًا، وفي اللقاءات الشخصية كان حيويًا يملأ المكان بصوته وحركات جسده ويديه.
وكان مندفعًا للدرجة التي يقسم فيها بأنه سوف يصبح مليونيرًا، وصحافيًا لامعًا، وكان يعدنا بأنه لن ينسانا لأننا رفاق بداياته الصعبة، فرق علينا افتراضيًا عشرات الملايين، أعطى واحدًا منا بيتًا وسيارة، وأعطى آخر يختًا لأنه يحب الصيد من البحر، ووعد زميلًا له بأنه سيكون سكرتيره الخاص وحافظ أسراره العظيمة، وكنت أعلم بأنه ليس من النوع الذي سينفذ عهودًا من هذا النوع، ليس لأنه بخيلًا، بل كان شديد الكرم، فمثله لن يصبح مليونيرًا، فلا ورث سيرثه، ولا طبع يجعله يعرف كيف يجمع المال أو يضاعفه، كان معظم راتبه الذي يستلمه يذهب إلى أقاربه وأصدقائه المحتاجين في بلده، وكان من النوع الذي يعرف كيف يصرف المال، لكنه لا يعرف كيف يكسبه من تجارة أو استثمار، بقي وما زال على الراتب الذي صار يتناقص كلما تقدم في العمر. في المكالمة الأخيرة التي حددنا فيها الوقت والمكان بدا صوته يميل إلى الضعف، يشبه أصوات المحبطين، وكأنه أدرك أن الحياة ترهق الكرماء والمرهفين طالما احتفظوا بكرمهم وإحساسهم المرهف، هل أسأله متى سيعطينا الملايين التي وعدنا؟ لا أظن بأني سأسأله إلا إذا وجدت فيه حماسته التي أعرفها.
قبل أسبوع وجدت في دفتر قديم هذه الحكاية التي دونتها بعد أن زارني جاري العربي: لا تبقي معدتك فارغة مدة طويلة، فالجوع يسبب للبعض نوعًا من الغضب الشديد، أنا مثال لذلك - الكلام للجار - كل أخطائي ارتكبتها وأنا جائع، طلقت زوجتي وأنا جائع، وعندما شبعت قبلت يدها وبكيت بكاءً مرًا لكي تصدق بأنني لا أقصد تطليقها بالمعنى الفعلي، ودفعت كل ما أملك ثمنًا لعودتها، وطردني المدير بعد أن ارتفع صوتي عليه أمام الزملاء لأنني كنت جائعًا، ففقدت العمل الذي كنت أحبه، اليوم كلما شعرت بالجوع آكل فورًا، ثم صمت، وبدّل وجهه إلى وجه غاضب وهو ينظر نحوي، والحمد لله أن الله ألهمني أن أسأله: هل تريد أن أعد لك طعامًا، فأجاب: ألم تكفيك كل القصص التي قلتها لك.. هل تريد أن تجرب كيف أكون وأنا جائع؟
عندما وصلت الطائرة وغادرت صالة المطار فقدت الاتصال بالإنترنت، حاولت استعادته دون جدوى، حينها لم أفقد وسائل التواصل الاجتماعي أو تطبيقات الاتصالات المجانية، كنت قد عدت بالزمن إلى 25 عامًا مضت، تقف في الطابور انتظارًا لسيارة أجرة، وتدور على الفنادق لتحجز غرفة مناسبة، كل هذا وأنت لا تعرف ما الذي يدور في العالم، وكم انتهت النتيجة بين روما وإشبيلية، ومن أرسل لك رسالة على الواتس أب أو عبر الإيميل، كنت متأخرًا عن العالم الذي تغير خلال 25 عامًا من خلال ذبذبات هوائية تسمى الإنترنت. لن يبدو أني أقول شيئًا جديدًا إذا قلت إن كل وسائل التواصل والأعمال قائمة على الشبكة العنكبوتية، ولا أن العالم تغير، لكن كل شيء يمضي بطريقة تمحو التواصل الإنساني المباشر، عالم قائم على تعبئة (الفورمات)، عالم بلا أصوات.