|


منزل أسود.. جراسييلا.. هرقل.. قصص صنعت أنخيل

الدمام - خالد الشايع 2024.07.17 | 06:22 pm

وصلنا للنهاية، أنخيل فابيان دي ماريا، لم يعد من الممكن رؤيتك بقميص راقصي التانجو مرَّةً أخرى. ربما عامٌ آخر، ولن نراك تركض خلف الكرة مجدَّدًا. لا أحد يعلم كم ستخسر الأرجنتين دونك.
19 عامًا، مرَّت وكأنَّها أشهرٌ قليلةٌ، تربَّع خلالها ابن روساريو الهزيل على قائمة اللاعبين الأعلى قيمةً في العالم لفترةٍ من التاريخ.
بملامحَ أوروبيةٍ إيطاليةٍ، واسمٍ مسيحي أصيلٍ، وُلِدَ أنخيل بعد عامين فقط من تفشي جنون مارادونا، والفوز بكأس العالم الأسطوري في المكسيك. الشغف بكرة القدم، كان يحيط بكل شيءٍ حوله، كان ميجيل، رجل أنخيل العجوز، لاعبَ كرة قدمٍ محترمًا أيضًا، لكنْ حلمه في أن يصبح لاعبًا في ريفر بليت، تحطم بعد تعرُّضه لإصابةٍ في الركبة، أنهت مسيرته قبل أن يخوض أول مباراةٍ له.
قبل أن يتعلَّم الحروف الأبجدية، قسَّم أنخيل حياته بين كرة القدم، والعمل مع والده برفقة شقيقتيه فانيسيا وإيفلين، ليؤمِّن لنفسه مصروفًا، يشتري به حذاءً جديدًا لركل الكرة.
من المفترض أن تكون جدران منزله الصغير بيضاءَ مثل منازل جيرانه، لكن لا أحد من عائلته يتذكَّر متى كانت بيضاء. في البداية كانت رمادية، ثم تحوَّلت تدريجيًّا إلى اللون الأسود بسبب غبار الفحم الذي كان يتطاير كل يومٍ في أرجاء المنزل. كان والده عاملًا في الفحم، لكنه لم يكن من النوع الذي يعمل في منجمٍ، بل كان يصنع الفحم في الجزء الخلفي من منزله.
أنخيل هو الذي تسبَّب في كل ذلك. الخوف على الطفل الشقي قادهم إلى حياة الفحم.
لم يكن طفلًا سيئًا، لكنْ كان لديه كثيرٌ من الطاقة، وفرطٌ في النشاط حتى وهو في الثانية من عمره. في يومٍ مشمسٍ، بدأت أمه البيع مبكرًا في متجرهم الملحق بغرفة المعيشة، وفيما كان يلعب في المشَّاية الصغيرة، فجأةً قرَّر الطفل الصغير اكتشاف ما يحدث في الخارج. خرج مباشرةً إلى منتصف الشارع، وكان على أمه أن تركض بسرعةٍ لتنقذه قبل أن تصدمه سيارةٌ مسرعةٌ، كانت تأتي من اليمين. بدا الأمر دراماتيكيًّا، ومثيرًا للخوف، فرأت أمه أن العمل بهذه الطريقة محفوفٌ بالمخاطر، لأنها كانت مضطرةً لترك باب المنزل مفتوحًا من أجل الزبائن، فاتجه الأب إثر ذلك لصناعة الفحم المنزلي بمساعدة العائلة، أولهم أنخيل الصغير.
هل هدأ الطفل الشقي؟ أبدًا، كان يقود والدته إلى الجنون لدرجة أنها أخذته للطبيب عندما كنت في الرابعة من عمره، وقالت له بصوتٍ باكٍ: "يا دكتور. إنه لا يتوقف أبدًا عن الجري، ماذا أفعل؟". كان طبيبًا أرجنتينيًّا حقيقيًّا، لذا قال بالطبع: "ماذا تفعل؟ كرة القدم".
في تلك الحقبة، كانت الأرجنتين تتنفَّس كرة القدم بدافعٍ من الهوس بمارادونا. تم تسجيل أنخيل في مدرسةٍ لكرة القدم قبل أن يدخل الروضة، واشترى حذاءً للعبة قبل أن يشتري كرَّاسة الرسم. الحلم الذي يترعرع وينمو في عقل الطفل الصغير، لم يكن ليهزمه جسده الهزيل، بأن يكون مارادونا آخر. حسنًا، دييجو أيضًا لم يكن لاعبًا ضخمَ البنية. لم يطق الصبر كثيرًا حتى يلعب كرةَ قدمٍ حقيقيةً.
الغريب أن أنخيل لا يرى في مارادونا المثل الأعلى له، لكن كيلي جونزاليس، جناح فالنسيا وإنتر السابق، الذي خاض 56 مباراةً دوليةً مع الأرجنتين، وكان في الغالب أعسرَ، مثل دي ماريا.
يجب أن تكون من روزاريو لتعرف معنى أن يتصل بك مدرب الشباب في روزاريو سنترال، ويقول لك: إنهم يريدون أن يلعب ابنك هناك. في الواقع، هو موقفٌ مضحكٌ للغاية، لأن والد أنخيل كان من أشد المؤيدين لفريق نيولز أولد بويز، بينما والدته داعمةٌ كبيرةٌ لروزاريو. التنافس بينهما كان مثل الحياة والموت. عندما كانت المباراة الكلاسيكية مستمرةً، كان والده وأمه يصرخان بأعلى صوتهما مع كل هدفٍ، وكان الفائز يسخر من الآخر لمدة شهرٍ كاملٍ بسبب ذلك.
لو استوعبت ذلك جيدًا لربما يمكن تخيُّل مدى فرحة ديانا هيرنانديز، والدة أنخيل، عندما اتصلوا بهم من سنترال. قال والده حينها: "أوه، لا أعرف. إنه بعيدٌ جدًّا. إنها تسعة كيلومترات! ليست لدينا سيارة! كيف سنوصله إلى هناك؟ فقالت أمه: "لا، لا، لا! لا تقلق، سآخذه! إنها ليست مشكلة. في ذلك الوقت جاء دور جراسييلا، درَّاجةٌ صفراء قديمة صدئة، كانت والدته تستخدمها، لتقوده إلى التدريب كل يوم.

الطريق لم يكن سهلًا، بالتأكيد، بسن الـ 15 والـ 16 كاد أنخيل أن يتوقف عن الكرة مرَّتين. لا يمكن تخيُّل كم كانت ستخسر الأرجنتين جراء ذلك. المرة الأولى عندما أخبره المدرب بأنه نحيلٌ جدًّا، يومها لم ينم من البكاء، وسمعته والدته وهو ينتحب، وما إن سمعت بالخبر حتى كادت تُخرج جراسييلا، وتقطع التسعة كيلومترات صعودًا ونزولًا في المنحدرات، لتلكم المدرب على أنفه، لكنْ بدلًا من ذلك اتصلت بأحد زملائه، فشرح له الوضع، وفي اليوم التالي دخلت عليه أمه وأخبرته بلهجة حاسمه «ستذهب اليوم للتدريب وتثبت نفسك للمدرب الأحمق»، وهذا ما حدث بمساعدة رفاقه الذين تساهلوا معه حينها، ولكنه رغم ذلك لن يجد طريقه للفريق الأساسي، الأمر الذي لم يعجب الده كثيرا، فأخبره بعدها بفترة وجيزة أنه سيكون أمامه عام أخر مع كرة القدم، وإلا سيجد نفسه مضطرا للعمل معه، عام واحد فقط، قبل نهايته شارك لأول مرة مع سنترال في دوري الدرجة الأولى، في ديسمبر بدأ القتال الفعلي، وبات مؤهلا للتعرف على هرقل، طائرة شحن عملاقة قديمة، بقدم علاقة الأرجنتيني بكرة القدم، كان الفريق يستغلها للسفر للمباريات البعيدة، بلا تذاكر ولا مقاعد ولا حتى حجز مسبق، فرش متناثرة في القسم الخلفي من الطائرة الضخم إلى جوار صناديق البضائع، يستلقي عليها اللاعبون لساعات طويلة، للوصول لوجهتهم الأخيرة، رحلة عذاب غير أنها كانت مثل الفردوس للاعب الصغير.



عامان أخران، تحديدا 2007، وكان أنخيل يرتدي نفس الألوان التي أرتدها ماردونا، مدافعا عن قميص منتخب بلاده للناشئين، والإحساس بشعور حمل اللقب العالمي، الجنون بدأ الآن يا أنخيل.



منذ تلك اللحظة، عرف الأرجنتينيون أنخيل دي ماريا، على أنه تميمة الحظ، متى ما حضر، تحضر معه رقصة التانغو، اذا غاب خسروا، الأمر ليس من قبيل المبالغة، حضر دي ماريا في 4 مباريات نهائية مع الأرجنتين انتهت بتتويجها بلقب كوبا امريكا في 2021 و 2024 و مونديال 2022 و الفيناليسما في 2022، وغاب عن تشكيلة الأرجنتين في نهائي مونديال 2014 فخسرت امام المانيا و غاب عن نهائي كوبا أمريكا عام 2016 فخسرت المواجهة أمام تشيلي، هكذا ببساطة، ليس ليونيل ميسي ولكنه أنخيل دي ماريا.



الفوز بكأس العالم للصغار، كان بداية الإعلان عن موهبة أنخيل، أشهر قليلة، ليبدأ بعدها مشواره في أوربا، منتقلا لبنفيكا، الطفل الصغير في داخله، لم ينسى تضحيات والده، ضل يعتبر نفسه «رجل عائلة» لذا استخدم مبلغًا كبيرًا من راتبه «لرد الجميل» لعائلته، بعد انتقاله إلى بنفيكا، طلب من والده التوقف عن العمل واشترى منزلًا لوالديه وأخواته، ثم بدأ يفكر بنفسه.



من بنفيكا، كانت الوجه للملكي، ريال مدريد، ولكن النهاية كانت محبطة، أوشكت على كتابه نهاية قصته قبل أن تكتمل.



يتذكر دي ماريا عام 2014، بأنه الأسواء في حياته، تعرض لإصابة عضلية في ربع نهائي كأس العالم، حاول أن يلعب، ولكن ريال مدريد رفض ذلك، يتذكر دي ماريا ما حدث حينها، قبل عشر سنوات :« لقد سمع الجميع شائعات مفادها أن ريال مدريد يريد التعاقد مع خاميس رودريجيز بعد كأس العالم، وكنت أعلم أنهم سيبيعونني لإفساح المجال له، لذا فهم لا يريدون أن تتضرر أصولهم، كان الأمر بهذه البساطة، هذه هي مهنة كرة القدم التي لا يراها الناس دائمًا».



مزق رسالة الريال الموجهة لإدارة المنتخب، دون أن يقرءها، كان يعرف جيدا ما فيها، « أردت صدق أن ألعب ولو أنهى ذلك مسيرتي»، ولكنه لم يرغب في تعقيد الأمور أكثر، استيقظ باكيا، بصوت مبحوح أخبر المدرب أنه يريد اللعب ولو كسر عضلة قلبه، ولكنه غاب عن النهائي، وخسرت الأرجنتين، تميمة الحظ كانت تتألم على المدرج.



تجرع دي ماريا الألم، وواصل المشوار، الخبر الذي أبكاه، سرعان ما كان سببا في سعادته مجددا، في 26 أغسطس 2014، وقع دي عقدًا مدته خمس سنوات مع مانشستر يونايتد مقابل 59.7 مليون جنيه إسترليني، وهي واحدة من أغلى عمليات النقل على الإطلاق وأعلى رسوم يدفعها نادٍ بريطاني على الإطلاق في ذلك الوقت، وورث القميص رقم 7 في يونايتد، والذي كان يرتديه سابقًا أساطير النادي جورج بيست، روبسون، كانتونا، بيكهام، وكريستيانو رونالدو، عام واحد قضاه أنخيل بين الشياطين، غادره بعدها لفرنسا، لم يستطع دي ماريا البقاء في النادي بعد تعرض منزله للسطو من قبل اللصوص، اهتز مستواه كثيرا، وفشل في التأقلم مع الحادثة التي كانت بمثابة بداية النهاية لإقامته في مانشستر يونايتد وإنجلترا، ليغادر في أول فترة انتقالات.



مستذكرا المواقف السعيدة "مدين لكرة القدم بكل شيء"، هكذا كان يردد في نفسه، وهو يتذكر أيام الطفولة الصعبة.



في يوم بارد، من شتاء ديسمبر، صحى أنخيل مبكرا لمساعدة والدة في تعبئة أكياس الفخم كان الجو باردًا جدًا وممطرًا، وكل ما كان لديهم سقفا من الصفيح فوق رؤوسهم، كان الأمر صعبا جدا، بعد بضع ساعات، ذهب إلى المدرسة، حيث كان الجو دافئًا، وكان على والده أن يبقى هناك يعمل طوال اليوم، لأنه إذا لم يبيع في ذلك اليوم، ربما لن يكون لديهم ما يكفي من الطعام.



على محمل الجد، يتذكر أنخيل تلك القصة بفخر، يومها عاهد نفسه على أنه «في مرحلة ما، سيتغير كل شيء إلى الأفضل»،
لهذا السبب عندما غدر به الريال، لم ييأس، واصل المشوار مع مانشستر يونايتد، ثم باريس سان جيرمان، ومن بعده يوفنتوس الإيطالي، قبل العودة لبنفيكا من جديد، لينتهي من حيث بدأ.



عندما شاهد الجمهور أنخيل وهو يحمل أبنته فرحا بلقب كوبا أمريكا الأخيرة، رأوا رجلا يضحك بسعادة غامرة، معتقدين أنه فرح من أجل اللقب فقط، ولكن لا يعلمون شيئا عن السبب الذي يجعله بهذا الجنون.



لا يعرفون أن «ميا» ولدت قبل موعدها بثلاثة أشهر، وأمضت أسابيع طويله موصولة بالأسلاك، ولا يعرفون كم بقي ساهرا جنبها يصلي لربه أن تشفى يشاهدون يبكي وهو يحمل الكأس، ولا يعلمون شيئا، هو فرح أنها معه، أكثر من فرحته بالكأس.



يعرفون أن النتيجة كانت 1-0، ولكنهم لا يعرفون أن كيف تحولت جدران غرفة معيشتهم من الأبيض إلى الأسود، لا يعرفون أن والده كان يعمل تحت سقف صغير من الصفيح، لا يعرفون شيئًا عن ركوب جراسييلا تحت المطر وفي البرد، ولا حتى عن هرقل، تلك القصص التي صنعت أنخيل دي ماريا.