|


زاتوبيك جنرال المسافات.. استمتع بالأشغال الشاقة.. و«نُفي» عن زوجته

التشيكي إميل زاتوبيك في 26 يوليو 1952 أمام الفرنسي آلان ميمون والألماني هربرت شاد خلال سباق 5 آلاف متر الأولمبي في هلسنكي (الفرنسية)
نيقوسيا ـ الفرنسية 2024.07.18 | 02:20 pm

يرى مراقبون كثر أن سباق 5 آلاف م في دورة هلسنكي عام 1952 هو الأفضل على هذه المسافة في تاريخ الألعاب الأولمبية، لا بل يعدونه من «كلاسيكياتها الخالدة».
هو سباق حضره 70 ألف متفرج، وجمع «قاطرة العصر» التشيكوسلوفاكي إميل زاتوبيك والفرنسي آلان ميمون والبلجيكي جاستون ريف قاهر زاتوبيك في سباق دورة لندن 1948، والإنجليزي الخطر كريستوفر شاتاواي والألماني هيربرت شاد.
يتذكّر ميمون السباق ويصفه بالمعركة المفتوحة بقوله «كل منّا كان يبذل طاقته ويتقدّم ليتصدّر حين تسنح له الفرصة، وليس كما يحصل حاليًّا حيث يتلطى العداؤون خلف «الأرنب» في المقدمة ويتحيّنون الفرصة للانقضاض بواسطة السرعة النهائية في الأمتار الأخيرة».
وأضاف «بداية، تصدّر الإنجليزي جوردون بيري ثم زاتوبيك بعدما تجاوز ريف وشاد، وحاولت قدر الإمكان أن أبقى قريبًا منه طمعًا في ميدالية أولمبية ثانية. رأيته في منتصف السباق وقد فتح فمه ومدّ لسانه وتدلّت رقبته وهي العلامات التي تشير إلى وهنه المتصاعد بينما يكون في كامل قوته».
تابع «في اللفة الأخيرة كان لا يزال في الصدارة، وكل منّا يراقب الآخر ليدركه في السرعة النهائية، أعتقد أنني ارتكبت خطأً كبيرًا بعدم المبادرة إلى ذلك إذ لربما كنت أنا الفائز، وتردّدت حين لاحظت اقتراب شاد خلفي.. كان ريف أصبح بعيدًا قليلًا وشاتاواي خلفنا. لم ينتظر زاتوبيك طويلًا فشنّ هجومه في المئتي متر الأخيرة، وعند المنعطف الأخير تعثر شاتاواي ووقع أرضًا «قبل 80 م من خط النهاية» واستلحق نفسه بحلوله خامسًا، في حين كان زاتوبيك يمضي إلى حصد الذهبية التي أهدرها في دورة لندن، وبقيت خلفه حتى النهاية».
اعترف ميمون لاحقًا «تحقيقي المركز الثاني إنجاز، لأن زاتوبيك لا يُمسّ، إنه من عالم آخر».
سجَّل زاتوبيك 14:06.6 دقيقة وميمون 14:07.4 د وشاد 14:08.6 د، لكن سقوط شاتاواي جعل منه نجمًا، علمًا أنه اعترف لزملائه بعدها أنه كان تعبًا جدًّا ولم يقوَ على المثابرة حتى النهاية.
وبعد عودته إلى بريطانيا حظي بفضل «حظّه العاثر» بشعبية كبيرة، ما أسهم في انتخابه نائبًا ثم تعيينه وزيرًا. ولولا ذلك السقوط لتمكّن أربعة عدائين من تسجيل زمن دون الـ 14:10 دقيقة.
احتفظ زاتوبيك بلقبه في سباق 10 آلاف متر معززًا رقمه الأولمبي «29:17.00 د» وتلاه الفرنسي ميمون، وقرَّر خوض الماراثون للمرة الأولى، من أجل تثبيت هيمنته أكثر فأكثر، وفي منتصف السباق، ظهر في المقدمة السويدي جوستاف يانسون لكن لفترة قصيرة، إذ تفاعل زاتوبيك سريعًا مع الأمر وأخذ زمام المبادرة ليقود الصدارة وحيدًا وبعيدًا فيما يشبه المهرجان والاستعراض الخاص، وكأنه يخوض سباق 10 آلاف متر واجتاز خط النهاية مسجلًا 2:23:03.2 ساعتين، بفارق نحو دقيقتين عن الأرجنتيني رينالدو جورنو الثاني وجاء يانسون ثالثًا.
دخل زاتوبيك الملعب وركض أمام مدرجات مكتظة بحشود هتفت بصوت واحد باسمه، وكان احتفال «القاطرة» مزدوجًا، إذ أحرزت زوجته دانا أنجروفا زاتوبيكوفا في الوقت عينه ذهبية رمي الرمح «50.47 م»، وهما ببساطة متناهية حصدا لتشيكوسلوفاكيا أربع ذهبيات.
سجَّل زاتوبيك انتصاراته الثلاثة في غضون أسبوع، مقدمًا تراجيديًّا مفعمة بكل ما ينتاب ويختلج في الصدور من مشاعر: أداء يُلخص صراع الإرادة والتصميم. كان «يقتل» خصومه، يقضي عليهم واحدًا تلو الآخر، إذ يضع سيناريو الانقضاض محددًا البداية ومقررًا النهاية. ويتلذذ في معاناته حتى الفوز المشبع.
خلال الماراثون في هلسنكي، لم ينسَ زاتوبيك الابتسام وهو يرد التحية للجمهور المحتشد على طول المسار. تبادل أحيانًا كلمات مع ركاب السيارات المرافقة، المندهشين من سطوته. لاحظوا هدوءه وثقته. فلم ينقصه حينها إلّا أن يتوقف ويوقع أوتوغرافات أو يبدي رأيه بالمناظر الجميلة.
في الملعب، كان المتفرّجون متلهفين لوصوله خاصة أنه بات يعرف من حركة جسده وانقباضات وجهه. عبر خط النهاية ورفض أن يلتف ببطانية تقيه من الهواء حملها إليه مسعف، واعتذر منه بلباقة قائلًا: «شكرًا لا حاجة لي بها. أنا أنهيت هرولتي اليومية».
رُقّي زاتوبيك إلى رتبة نقيب في الجيش، ولاحقًا رُفع إلى رتبة عقيد وشغل منصب مدرب المنتخب، ثم جُرّد من كل شيء وكاد يصبح نكرة بعدما حُرم من مميزات الإنجاز، إذ دفع ثمنًا غاليًا لدعمه أحداث «ربيع براج» عام 1968.
دار دولاب زاتوبيك «أعوام» إلى الخلف لكنه ظلّ متفائلًا محبًّا للحياة، «نُفي» بعيدًا من زوجته يعمل حفارًا للآبار ولا يتمكّن من رؤيتها إلّا مرّة كل أسبوعين، لكن عزاءه ومتنفّسه الوحيدين بقيا في أن عمله في الهواء الطلق وسط الغابات والريف.
انتابه الحزن لأنه لم يعد في مقدوره الاعتناء بالحديقة الصغيرة إلى جوار منزله إلى أن «رُضي عنه» بعد أعوام فنقل للعمل في قسم التوثيق في اللجنة الأولمبية في براج، واعترف أنه بات من الرياضيين القدامى أصحاب الشهرة «لكنني لم أتقاعد من العمل وأنا مستعد دائمًا للمساعدة في أي موقع لأبقى مفيدًا».
ويتذكّر أنه طمح دائمًا لتقديم الأفضل وتحقيق الإنجازات «لكن ذلك تطلب كدًا وتعبًا وتدريبًا يوميًّا مكثفًا لتحطيم الأرقام وإحراز الألقاب، تمامًا كالأشغال الشاقة، لكنني كنت أستمتع بها».
توفي زاتوبيك في 22 نوفمبر عام 2000 عن عمر 78 عامًا بعد صراع طويل مع المرض، حسبما أعلنت إدارة المستشفى العسكري في براج.