طفلٌ يتحين وعيًا مؤجلًا.. يتراقص خياله على حافة أحلام مستحيلة وراء سحابات بعيدة.. يتماشى مع الأيام الصعبة، كسفينة عتيقة تتلاطمها أمواج عاتية ليس في قلبها ذرة من خوف أو محبة واحترام.. يتلمس طريقًا وعرًا ومتعثرًا يؤدي إلى المجهول.. يتعايش مع الانتظار القاتل الذي ليس من صداقته بُد..
هذا أنا.. هذا أنا.. غِرٌ، ناشئ، يافع، يفتح عينيه على الدنيا في مدينة سعودية صغيرة ترقد بهدوء في أقاصي الشمال واسمها رفحاء.. عبثًا أسعى لمعرفة سبب تسميتها فأدخل في نفق المصادر المتضاربة.. يقولون سميت على جبل.. ما رأيت جبلًا في رفحاء.. لا جبال ولا سهول ولا مرتفعات ولا منخفضات في رفحاء.. أرض مبسوطة كقلوب ساكنيها ونواياهم الطاهرة.. فمن أين جاءوا بالجبل ومن أين جاءوا بالاسم؟.. يقولون سميت على امرأة.. لا أحد يعرف ولا أحد سمع عن حكاية هذه المرأة المزعومة.. غلبني الاسم وهزمني السبب.. هو الشيء الوحيد الذي لست متيقنًا منه في كل شيء يخص رفحاء هذه.. مدينتي وأميرتي وحاضنة ذاكرتي وذكرياتي.. رفحاء فيها أبصرت النور.. علمتني الحياة.. وأماطت اللثام أمامي عن أوجه الزمن.. ضحكت معي.. عرفتني على أحزان الليالي الموجعة.. أكرمتني كضيف غريب حل في ربوع قبيلة ترعرع أبناؤها على الشهامة والمرجلة وحسن الجوار.. في مستشفى أرامكو، دوت صرختي الأولى.. ولدت هناك.. كانت رفحاء في نشأتها الباكرة مجرد محطة مستحدثة لضخ النفط المنساب صوب ميناء مدينة صيدا اللبنانية الراقدة على سواحل البحر الأبيض المتوسط.. كانت ضمن جوقة مدن شيدت لتدعم خط الأنبوب الأفعواني الذي اشتهر مجازًا بالتابلاين.. كان مشروعًا حيويًا عبقريًا لإنقاذ الطاقة في العالم كله.. فكرة جريئة وتقدمية أعاد فيها الملك عبد العزيز ـ رحمه الله ـ تدفق البترول إلى أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية، عبر منهجية هندسية لا تتكرر.
رفحاء مدينتي.. سيدتي الفاضلة.. راحتي ومروحتي.. أعرف كل تفاصيل وجهها.. أحفظ تقاسيم صوتها.. لحنها.. شجنها.. جراحها وأفراحها.. أملك منذ صباي جميع أسرارها وخفاياها وأيامها المشرقة ولياليها الخواليا.. أعرف ناسها وأهلها وعشيرتها الأقربين.. حين أسستها أرامكو في مطلع الخمسينيات الميلادية من القرن الماضي كانت المدينة الأحدث على وجه البسيطة.. المدن ضاربة في أعماق التاريخ.. كل المدن بلغت من العمر عتيا.. لا تجد مدينة حديثة حول العالم.. رفحاء خرجت إلى الشمس من وراء نهضة اقتصادية وفكرة لامعة.. حين تأسست كانت أرضها صحراء قاحلة لا يعيش فوق فياضها وترابها سوى العناكب والعقارب والحشرات الضالة في صيف ملتهب الحرارة.. شتاؤها برد مؤذي وأمطار غزيرة.. وكلما استقبل ثراها المطر، اهتزت أرضها وربت وأنبتت من كل زوج بهيج.. الشيح والخزامى والنفل والرشاد والبابونج والقريص..
قررت أرامكو أن تنفخ فيها الحياة.. محطة، وحي للسكن حمل اسم حي العمال حتى يومنا هذا، ومستشفى، ومدرسة، ومطار عبارة عن مدرج وبرج مراقبة وقاعة صغيرة، ثم صالة سينما لترفيه الذين فرضت عليهم تصاريف الأيام العيش في هذه القطعة المنسية على تضاريس الكون.. ثم ملعب جولف.. آجل ملعب جولف.. قبل سبعين عامًا كان في رفحاء ملعب جولف.. كلما بدت المناكفات مع الأصدقاء عن ديارهم ومسقط رؤوسهم ما كنت أرمي معلومة ملعب الجولف هذه دعمًا لفكرة حداثة رفحاء ومدنيتها منذ فجر تاريخها.. كنت أخجل من اعتباري أقدم معلومة مضللة لكسب التعاطف أو التقدير.. كنت أكتفي فقط بالقول إننا في رفحاء عرفنا السينما قبل الجميع.. ما كنت أجرؤ على تناول رواية ملعب الجولف رغم حقيقتها وواقعيتها..
رفحاء وملعب الجولف.. لقاء أضداد جعله واقعًا ممكنًا، رجل غيّر وجه التاريخ، وغيّر جغرافية الكرة الأرضية، وحول جزيرة العرب إلى قبلة نهضوية ودولة حقيقية مضيئة بعد سنوات دامية من حروب عبثية مظلمة.. ذاك نسميه نحن السعوديين حبًا وفخرًا وعزًا واعتزازًا، المؤسس.. ملعب جولف في رفحاء.. نتاج فكرة أسطورية بطلها عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود، طيب الله ثراه، وأعلى في القلوب ذكراه..
تعبر الأيام الآماد.. تسير بخطى متعجلة لهثًا باتجاه معجزة لا تكاد العقول المستنسخة استيعابها بسهولة.. ترجع البصر كرتين، لعلها تتدارك هول لحظات التغيير البراقة.. المملكة العربية السعودية، هذا العملاق الذي انتوى إعادة ترتيب الحياة.. أراد الجلوس بمكان يليق به وبأهله وأبنائه ورجاله وتاريخه.. ابتغى أن ترى الدنيا ملامحه التي تتسع كل العيون حين ترقبها.. أعتزم المضي في دروب لم يسلكها أحد غيره من قبل ليتحدى المستحيل ويتخطى الصعاب والعوائق، ويكتب سيرة متجددة تتقاطع فيها نسائج المجد وسُدى الرفعة والسؤدد والعلو.. ليحدث هذا كله ماذا كنا نحتاج؟.. قائد مثل محمد بن سلمان بن عبد العزيز.. فقط.. فقط!!
إنها رياح التجديد حين تهب مترتبة بهندام سكون يسبق عواصف مليحة تتغنج بفساتين يطرزها الفرح.. حان وقت تجاوز كل تلك الأماني البسيطة، والمتطلبات الخجولة.. تغيرت قواعد اللعبة إلى الأبد.. قلنا كسعوديين ونحن نتوكأ وراء طاولة شطرنج: كش ملك.. انتصرنا.. انتصرنا.. عرفنا النتيجة من تحركات البيادق الأولى.. تحولت بلادنا إلى ورشة عمل كبيرة.. تحولت إلى خلية نحل توازي مساحة عطارد والمشتري وزحل.. مصنع مزدحم بأيادٍ لا تهدأ، وسواعد جسورة، وأكف تلهج بالعمل والأمل، وحناجر تتغنى بما كتبه البدر العظيم: من سقى غرسك عرق، دمع ودم يستاهلك.. يستاهلك
أراد لنا محمد بن سلمان أن نعيش بذاكرتين متوازيتين.. ذاكرة الأمس التليد، وذاكرة الغد المجيد.. وكلاهما اتخذا من الفخر والتباهي والشموخ، ما يكفي ويفيض.. الأمس الذي فيه النشأة والانطلاق نحو الدنيا كدولة حديثة تبني نفسها بهمة أبناء من ثنى بالسيف دونها، وتترك كل هروج حسادها تحت أنقاض لهايب أحقادهم.. الحاسدون والكارهون، والذين في قلوبهم مرض يريدون المملكة العربية السعودية أن تبقى مجرد «مسجد» يأتون إليها لأداء عباداتهم.. يريدون هذا السعودي أن يبقى منزويًا في روضة المسجد.. يريدون بقية أوجه الحياة لهم وحدهم لا شريك لهم.. إذا أراد السعوديون الترفيه والسعادة، والطرب والابتهاج، فعليهم أن يقطعوا تذاكر السفر ويتزاحمون في صالات المطارات ويغادرون بلادهم.. هذا كان برواز الصورة الميتة.. ذهبت الصورة إلى مثواها الأخير.. الضوء يملأ الرياض.. الابتسامة الحية.. ضحكات تتوالد من نجاحات لا تتوقف.. قناعات تغمر الآفاق بهزيمة المحال.. وطن لا يتثاءب ساهرًا يبني رؤية أبهرت كل عقل ألقى السمع وهو شهيد..
السعودية.. أسطورة تحدي مكتملة الأركان.. البناء والسرعة والفكرة والإنجاز والإعجاز.. أيامًا معدودات.. لا عمرًا مديدًا.. لا أزمنة متهرمة.. لا عصورًا سحيقة.. سحب نشطة وخطى دؤبة وسعي بأنفاس تلتقط ملامح الكمال.. ترفيه ورياضة وجامعات وعلوم متشبعة بروح سباقة إلى كل ما تحتاجه مسارات تضع السعوديين في قمم باسقة، ومشاريع تخضر معها الفياض المجاديب، ومدن جديدة تتزاين لتبهر أبصار أولئك المفتونين بكل ما يمكن فعله خارج الصناديق المتماثلة كما تفعل نيوم مثلًا.. كانت رفحاء مدينة جديدة بمقاييس زمانها، وفكرتها وظروفها.. جاءت نيوم اليوم نتاج فكرة لا حدود ولا آفاق لجموحها ورفعتها وسموها وعليائها.. أمة تتناهض بأوجها بعضها فوق بعض.. تترابط كعقد الماسّ باهظ الثمن.. تتكاتف كما هي أمواج البحار والمحيطات الهادرة.. عزك لقدام وأمجادك وراء.. كالغيوم المتراصة.. فوق هام السحب..
أستعيد حكايتي مع رفحاء متسندًا على حائط أطوابه مبنية على تربة لينة هشة.. أتذكر بذهن شارد كيف أرعبتني فكرة ملعب الجولف في رفحاء.. كيف رفض عقلي الصغير التواؤم ولو لمرة واحدة مع طبيعة احتضان رفحاء في ولادتها ملعب جولف.. وجه ناصع للحياة، حين يأخذ ذلك الوعي إجازة مفتوحة..
أهم نجوم لعبة الجولف في العالم يتنافسون في مسابقات دولية على ملاعب سعودية.. كل البطولات تحت سمائنا.. كل الألعاب.. كل النجوم.. حلم يتعاجز العقل المجرد الوقوف طويلًا عند عتباته.. كيف كنت أفكر وأنا أتوارى عن قصة ملعب الجولف في رفحاء.. كيف كنت أتوهم بأنهم لن يصدقوني.. كيف كنت أستحيل أن يتعرف السعوديون على اللعبة الأرستقراطية في عوالم بشر يتنفسون مثلنا من هواء هذا الكون.. هل هزمتني سبب معرفة مسمى رفحاء وحدها.. أم أنها هزيمة جهالة طفل لم يكتمل وعيه بما ستؤول إليه الدنيا في أزمنتها المتتابعة.. من المؤسس إلى الملهم.. حينما يختصر ملعب جولف في مدينة مثل رفحاء كل شيء يمكن الزهو به ومنه وإليه.. وطن أتى إلى هذا العالم ليكون ما مثله بهالدنيا بلد.. قالها البدر.. ومضى..!!
هذا أنا.. هذا أنا.. غِرٌ، ناشئ، يافع، يفتح عينيه على الدنيا في مدينة سعودية صغيرة ترقد بهدوء في أقاصي الشمال واسمها رفحاء.. عبثًا أسعى لمعرفة سبب تسميتها فأدخل في نفق المصادر المتضاربة.. يقولون سميت على جبل.. ما رأيت جبلًا في رفحاء.. لا جبال ولا سهول ولا مرتفعات ولا منخفضات في رفحاء.. أرض مبسوطة كقلوب ساكنيها ونواياهم الطاهرة.. فمن أين جاءوا بالجبل ومن أين جاءوا بالاسم؟.. يقولون سميت على امرأة.. لا أحد يعرف ولا أحد سمع عن حكاية هذه المرأة المزعومة.. غلبني الاسم وهزمني السبب.. هو الشيء الوحيد الذي لست متيقنًا منه في كل شيء يخص رفحاء هذه.. مدينتي وأميرتي وحاضنة ذاكرتي وذكرياتي.. رفحاء فيها أبصرت النور.. علمتني الحياة.. وأماطت اللثام أمامي عن أوجه الزمن.. ضحكت معي.. عرفتني على أحزان الليالي الموجعة.. أكرمتني كضيف غريب حل في ربوع قبيلة ترعرع أبناؤها على الشهامة والمرجلة وحسن الجوار.. في مستشفى أرامكو، دوت صرختي الأولى.. ولدت هناك.. كانت رفحاء في نشأتها الباكرة مجرد محطة مستحدثة لضخ النفط المنساب صوب ميناء مدينة صيدا اللبنانية الراقدة على سواحل البحر الأبيض المتوسط.. كانت ضمن جوقة مدن شيدت لتدعم خط الأنبوب الأفعواني الذي اشتهر مجازًا بالتابلاين.. كان مشروعًا حيويًا عبقريًا لإنقاذ الطاقة في العالم كله.. فكرة جريئة وتقدمية أعاد فيها الملك عبد العزيز ـ رحمه الله ـ تدفق البترول إلى أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية، عبر منهجية هندسية لا تتكرر.
رفحاء مدينتي.. سيدتي الفاضلة.. راحتي ومروحتي.. أعرف كل تفاصيل وجهها.. أحفظ تقاسيم صوتها.. لحنها.. شجنها.. جراحها وأفراحها.. أملك منذ صباي جميع أسرارها وخفاياها وأيامها المشرقة ولياليها الخواليا.. أعرف ناسها وأهلها وعشيرتها الأقربين.. حين أسستها أرامكو في مطلع الخمسينيات الميلادية من القرن الماضي كانت المدينة الأحدث على وجه البسيطة.. المدن ضاربة في أعماق التاريخ.. كل المدن بلغت من العمر عتيا.. لا تجد مدينة حديثة حول العالم.. رفحاء خرجت إلى الشمس من وراء نهضة اقتصادية وفكرة لامعة.. حين تأسست كانت أرضها صحراء قاحلة لا يعيش فوق فياضها وترابها سوى العناكب والعقارب والحشرات الضالة في صيف ملتهب الحرارة.. شتاؤها برد مؤذي وأمطار غزيرة.. وكلما استقبل ثراها المطر، اهتزت أرضها وربت وأنبتت من كل زوج بهيج.. الشيح والخزامى والنفل والرشاد والبابونج والقريص..
قررت أرامكو أن تنفخ فيها الحياة.. محطة، وحي للسكن حمل اسم حي العمال حتى يومنا هذا، ومستشفى، ومدرسة، ومطار عبارة عن مدرج وبرج مراقبة وقاعة صغيرة، ثم صالة سينما لترفيه الذين فرضت عليهم تصاريف الأيام العيش في هذه القطعة المنسية على تضاريس الكون.. ثم ملعب جولف.. آجل ملعب جولف.. قبل سبعين عامًا كان في رفحاء ملعب جولف.. كلما بدت المناكفات مع الأصدقاء عن ديارهم ومسقط رؤوسهم ما كنت أرمي معلومة ملعب الجولف هذه دعمًا لفكرة حداثة رفحاء ومدنيتها منذ فجر تاريخها.. كنت أخجل من اعتباري أقدم معلومة مضللة لكسب التعاطف أو التقدير.. كنت أكتفي فقط بالقول إننا في رفحاء عرفنا السينما قبل الجميع.. ما كنت أجرؤ على تناول رواية ملعب الجولف رغم حقيقتها وواقعيتها..
رفحاء وملعب الجولف.. لقاء أضداد جعله واقعًا ممكنًا، رجل غيّر وجه التاريخ، وغيّر جغرافية الكرة الأرضية، وحول جزيرة العرب إلى قبلة نهضوية ودولة حقيقية مضيئة بعد سنوات دامية من حروب عبثية مظلمة.. ذاك نسميه نحن السعوديين حبًا وفخرًا وعزًا واعتزازًا، المؤسس.. ملعب جولف في رفحاء.. نتاج فكرة أسطورية بطلها عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود، طيب الله ثراه، وأعلى في القلوب ذكراه..
تعبر الأيام الآماد.. تسير بخطى متعجلة لهثًا باتجاه معجزة لا تكاد العقول المستنسخة استيعابها بسهولة.. ترجع البصر كرتين، لعلها تتدارك هول لحظات التغيير البراقة.. المملكة العربية السعودية، هذا العملاق الذي انتوى إعادة ترتيب الحياة.. أراد الجلوس بمكان يليق به وبأهله وأبنائه ورجاله وتاريخه.. ابتغى أن ترى الدنيا ملامحه التي تتسع كل العيون حين ترقبها.. أعتزم المضي في دروب لم يسلكها أحد غيره من قبل ليتحدى المستحيل ويتخطى الصعاب والعوائق، ويكتب سيرة متجددة تتقاطع فيها نسائج المجد وسُدى الرفعة والسؤدد والعلو.. ليحدث هذا كله ماذا كنا نحتاج؟.. قائد مثل محمد بن سلمان بن عبد العزيز.. فقط.. فقط!!
إنها رياح التجديد حين تهب مترتبة بهندام سكون يسبق عواصف مليحة تتغنج بفساتين يطرزها الفرح.. حان وقت تجاوز كل تلك الأماني البسيطة، والمتطلبات الخجولة.. تغيرت قواعد اللعبة إلى الأبد.. قلنا كسعوديين ونحن نتوكأ وراء طاولة شطرنج: كش ملك.. انتصرنا.. انتصرنا.. عرفنا النتيجة من تحركات البيادق الأولى.. تحولت بلادنا إلى ورشة عمل كبيرة.. تحولت إلى خلية نحل توازي مساحة عطارد والمشتري وزحل.. مصنع مزدحم بأيادٍ لا تهدأ، وسواعد جسورة، وأكف تلهج بالعمل والأمل، وحناجر تتغنى بما كتبه البدر العظيم: من سقى غرسك عرق، دمع ودم يستاهلك.. يستاهلك
أراد لنا محمد بن سلمان أن نعيش بذاكرتين متوازيتين.. ذاكرة الأمس التليد، وذاكرة الغد المجيد.. وكلاهما اتخذا من الفخر والتباهي والشموخ، ما يكفي ويفيض.. الأمس الذي فيه النشأة والانطلاق نحو الدنيا كدولة حديثة تبني نفسها بهمة أبناء من ثنى بالسيف دونها، وتترك كل هروج حسادها تحت أنقاض لهايب أحقادهم.. الحاسدون والكارهون، والذين في قلوبهم مرض يريدون المملكة العربية السعودية أن تبقى مجرد «مسجد» يأتون إليها لأداء عباداتهم.. يريدون هذا السعودي أن يبقى منزويًا في روضة المسجد.. يريدون بقية أوجه الحياة لهم وحدهم لا شريك لهم.. إذا أراد السعوديون الترفيه والسعادة، والطرب والابتهاج، فعليهم أن يقطعوا تذاكر السفر ويتزاحمون في صالات المطارات ويغادرون بلادهم.. هذا كان برواز الصورة الميتة.. ذهبت الصورة إلى مثواها الأخير.. الضوء يملأ الرياض.. الابتسامة الحية.. ضحكات تتوالد من نجاحات لا تتوقف.. قناعات تغمر الآفاق بهزيمة المحال.. وطن لا يتثاءب ساهرًا يبني رؤية أبهرت كل عقل ألقى السمع وهو شهيد..
السعودية.. أسطورة تحدي مكتملة الأركان.. البناء والسرعة والفكرة والإنجاز والإعجاز.. أيامًا معدودات.. لا عمرًا مديدًا.. لا أزمنة متهرمة.. لا عصورًا سحيقة.. سحب نشطة وخطى دؤبة وسعي بأنفاس تلتقط ملامح الكمال.. ترفيه ورياضة وجامعات وعلوم متشبعة بروح سباقة إلى كل ما تحتاجه مسارات تضع السعوديين في قمم باسقة، ومشاريع تخضر معها الفياض المجاديب، ومدن جديدة تتزاين لتبهر أبصار أولئك المفتونين بكل ما يمكن فعله خارج الصناديق المتماثلة كما تفعل نيوم مثلًا.. كانت رفحاء مدينة جديدة بمقاييس زمانها، وفكرتها وظروفها.. جاءت نيوم اليوم نتاج فكرة لا حدود ولا آفاق لجموحها ورفعتها وسموها وعليائها.. أمة تتناهض بأوجها بعضها فوق بعض.. تترابط كعقد الماسّ باهظ الثمن.. تتكاتف كما هي أمواج البحار والمحيطات الهادرة.. عزك لقدام وأمجادك وراء.. كالغيوم المتراصة.. فوق هام السحب..
أستعيد حكايتي مع رفحاء متسندًا على حائط أطوابه مبنية على تربة لينة هشة.. أتذكر بذهن شارد كيف أرعبتني فكرة ملعب الجولف في رفحاء.. كيف رفض عقلي الصغير التواؤم ولو لمرة واحدة مع طبيعة احتضان رفحاء في ولادتها ملعب جولف.. وجه ناصع للحياة، حين يأخذ ذلك الوعي إجازة مفتوحة..
أهم نجوم لعبة الجولف في العالم يتنافسون في مسابقات دولية على ملاعب سعودية.. كل البطولات تحت سمائنا.. كل الألعاب.. كل النجوم.. حلم يتعاجز العقل المجرد الوقوف طويلًا عند عتباته.. كيف كنت أفكر وأنا أتوارى عن قصة ملعب الجولف في رفحاء.. كيف كنت أتوهم بأنهم لن يصدقوني.. كيف كنت أستحيل أن يتعرف السعوديون على اللعبة الأرستقراطية في عوالم بشر يتنفسون مثلنا من هواء هذا الكون.. هل هزمتني سبب معرفة مسمى رفحاء وحدها.. أم أنها هزيمة جهالة طفل لم يكتمل وعيه بما ستؤول إليه الدنيا في أزمنتها المتتابعة.. من المؤسس إلى الملهم.. حينما يختصر ملعب جولف في مدينة مثل رفحاء كل شيء يمكن الزهو به ومنه وإليه.. وطن أتى إلى هذا العالم ليكون ما مثله بهالدنيا بلد.. قالها البدر.. ومضى..!!