|


أحمد الحامد⁩
حكايات بالإشارات
2024-12-30
في البقالة التي تقع في زاوية العمارة المقابلة لمحطة بيكر ستريت في لندن، كنت أشاهد السيد أوستين أو هيدسون، لا أذكر اسمه بالتحديد لكنه واحد مما ذكرت، كان في أواخر الخمسينات، يجلس خلف آلة حاسبة ضخمة بشكل دائم، لونها أخضر، تشبه آلة كتابة قديمة، ولها رنين جرسي حاد عندما ينفتح درجها. لا أذكر أني دخلت البقالة ولم أشاهده في غير مكانه، جالسًا جلسته المعتادة، لذا ومع كل المرات التي رأيته فيها إلا أنني لا أستطيع وصف طوله، أطويل كان أو معتدل الطول أو قصير؟، لم أفكر قبل هذه المرة في الإجابة عن هذا السؤال. كنت مدخنًا وكان أكثر ذهابي له لشراء السجائر وأنا ذاهب إلى العمل أو لزيارة صديق، أما المرات التي كنت أشتري منه السجائر وأنا عائد إلى الشقة فكنت أعود ببعض ما نحتاجه في المطبخ. على جوانب الآلة الحاسبة كانت هناك عشرات بطاقات اليانصيب، معظمها من النوع الذي تعرف نتيجته بشكل فوري بعد أن تقوم بكشطها، أما أشهرها فكان اليانصيب الأسبوعي الذي يعتمد على اختيار الأرقام وانتظار النتيجة التي تُنقل في بث مباشر على محطة التلفزيون. بعدما رأى أوستون وأظنه الاسم الصحيح تكرار شرائي منه بشكل شبه يومي بدأ بالتحدث معي أثناء دفعي ثمن ما كنت أشتريه، أحاديث عن الطقس، عن نتائج المباريات، وأشياء كثيرة لم أفهمها لغاية الآن، لأنني وببساطة لم أكن أجيد الإنجليزية التي تسمح لي بالحديث مع الآخرين للدرجة التي أفهم فيها ما يقوله المتحدث، كنت أفهم بعض الكلمات وأخمن الحديث، ولأن التخمين فيه مخاطرة كنت أفضل ألّا أجازف بالتحدث، فأبقى مستمعًا مع رسم بعض الابتسامات وبعض اهتزازات الرأس كدليل على التركيز أو التأييد لما يقوله. في إحدى المرات تحدث معي أوستن بشيء لم أفهمه، ولشعوري بالتقصير تجاهه كوني لم أكن أبادله الأحاديث مكتفيًا بقول نعم، وشكرًا، وأراك مجددًا، قمت وطرحت عليه سؤالًا كان نقطة تحول في علاقتي معه، سألته بلغة ركيكة ومستعينًا بإشارات يدوية محاولاً إيصال السؤال: لماذا لا تلعب أنت بأوراق اليانصيب هذه، فهي موجودة أمامك كل يوم، ولو فزت في إحدى المرات فقد تصبح مليونيرًا؟! ركّز أوستن في وجهي وقال: ماذا؟ علمت بأنه لم يفهم ما قلت، أعدت تكرار ما قلته ولكن أضفت هذه المرة أن مسكت ورقة يانصيب بيدي ثم أشرت نحوه وكأنه يكشطها، ثم وكأن الورقة فازت مع كلمة فوز بالإنجليزي، ثم وضع الفلوس في الجيب. كنت أقول كلمة إنجليزية تصاحبها بعض الإشارات كبديل للكلمات التي لا أعرفها. ابتسم أوستون فابتسمت، ثم قال: ألا تجيد الإنجليزية؟ أجبته: لا. فأطلق ضحكة مع شتيمة بالكاد خرجت منه لشدة ضحكه. ثم كرر ضحكاته وشتيمته حتى تحول وجهه الأبيض إلى أحمر، ثم وضع رأسه على طرف الآلة الحاسبة وراح يكمل الضحك، ورحت أنا أضحك معه، كنت أعلم بأنني قد انكشفت أمامه، وأنه يضحك على إهداره الوقت معي في الأحاديث التي كان يفتحها معي دون أن أفهمها، وعلى سوء الفكرة التي اقترحتها له. استمريت بالشراء منه مدة عامين، حاول عدة مرات أن يعلمني كلمة أو كلمتين، وكنت أشير إلى أوراق اليانصيب مشيرًا إلى كشطها ووضع الفلوس في جيبه. غادرت دون أن أودعه ظنًا أني سأعود إليه، في العام 2016 ذهبت إلى البقالة، لم أجده، كان رجلًا في الأربعينات في مكانه، فيه شبه منه، ولم أجرؤ على السؤال عنه.