استمعت للإذاعة منذ الطفولة، أتصيّد فيها الأغاني التي أحبها، وانتظر البرامج بشوق المحب. كانت صديقة المساء، ودفء الليالي الشتوية. للإذاعة في مخيلة الطفولة صورة ذهنية ارتبطت بوالدي رحمه الله، راديو متوسط الحجم مغلف بجلد بني، مع فتحات صغيرة على الجلد الأمامي، تسمح بمرور الصوت من السماعة. نشرات الأخبار، وجرس ساعة بيج بين من إذاعة لندن، ورواد الديوانية الذين يتحولون بعد كل نشرة أخبار إلى محللين سياسيين. كانت الإذاعة منذ ظهورها صديقة الناس، سهلة المعشر، ورفيقة في الترحال. لم أخطط يومًا للعمل فيها، لكنني لم أكن غريبًا عنها منذ اليوم الأول الذي عملت فيه، أحببتها منذ اللقاء الأول، ولا أذكر زميلًا طوال سنوات قال إنه لا يحبها، ولم أسمع أحدًا قال إنه يبحث عن مجال آخر. حتى الذين يغادرونها من الزملاء بسبب ظروفهم يصابون بالحنين الشديد لها. في المخيلة العامة يُعتبر العمل الإذاعي أسهل من التلفزيوني، وهذا اعتقاد خاطئ، الإذاعة أصعب، ففي التلفزيون هناك مساعدون مثل الإضاءة والديكور والألوان وكل البهرجة خصوصًا إذا ما صادف وكنت على درجة من الوسامة، أما في الإذاعة فليس لديك سوى الصوت. أتذكر أحد الزملاء الأعزاء، كان وما زال نجمًا تلفزيونيًا، جاء للإذاعة من التلفزيون لتقديم برنامج إذاعي، كانت تجربته الإذاعية الأولى، وما أن انتهى من تقديم حلقته الأولى حتى جاءني ليقول: لك شو هاد.. ولا كأن صار لي 15 سنة بقدم بالتلفزيون! لا يعني ذلك أن التقديم التلفزيوني سهل، لا أقصد ذلك، لكن الإذاعة أصعب في البداية، وتحتاج إلى فن خاص لا تتطلبه الشاشة التي تحتاج إلى فن مختلف. لا حاجة اليوم للقول إن الإذاعة صمدت أمام التغيير في شكل الإعلام، حتى البودكاست الصوتي ما هو إلا فرع من فروع الإذاعة، مجرد برنامج مسجل، والفارق بينه وبين برامج الإذاعة أن تواقيت برامج الإذاعة محددة، بينما تستطيع الاستماع للبودكاست في الوقت الذي تشاء. مهما تغيرت التقنية فلن تلغي حواس الإنسان، لن تلغي السمع والبصر، لذا ستبقى الإذاعة ما بقي السمع، ولكل الإذاعيين والعاملين في الإذاعة، كل عام وأنتم بخير في يوم الإذاعة العالمي.