كان حيًا جديدًا، سكنت في رأس الحارة، بجانبي جار من جنوب إفريقيا، وفي البيت الثاني على اليمين كان باكستانيًا، أما الجار الثالث فكان عربيًا. بعد أيام تعرفت على كل الجيران القريبين، وراح الأطفال يلعبون مع بعضهم بعضًا وكأنهم يعرفون بعضهم من مدة طويلة. كان جاري العربي "أبو نبيه" ودودًا، ومع أنه طاف العالم غربًا وشرقًا إلا أنه احتفظ بعاداته العربية التي إذا أحبنا أجنبي فإنه يحبنا لأجلها، ودودًا كريمًا، عفويًا يحب مساعدة الآخرين، أحبه الأطفال، تجدهم مجتمعين حوله وهو يلاعبهم ويقدم لهم الحلوى أو "البنبوني" كما يسميها. كان يكبرني بقليل، لكنه يسبقني بالوصول إلي لكي يصافحني بابتسامته المطبوعة دائمًا على وجهه: كيفك جاري؟. أبو نبيه كان من بلد كتب على أبنائه أن يهاجروا إلى أي بلد يستطيعون الوصول إليه، هربًا من الحرب الأهلية، ومن حياة الهدوء النسبي الذي تكسره أصوات القذائف. كان ابنًا أصيلًا لوالديه، عمل في أي وظيفة متاحة ليرسل لهم ما يحصل عليه من مال، سافر في الباخرة وفي القطار وفي الطائرة، ومشيًا على الأقدام، قضى أكثر من نصف حياته بلا وطن صالح للعيش بأمان. عندما حط رحاله في المنزل الثالث في حارتنا كان قد تزوج واستقر مع عائلته، يعمل في مصنع صغير للألمنيوم له شراكة فيه. كان كثير السفر للعمل، سفرات قصيرة يعود لنا بأنواع الهدايا، عاد من سيلان حاملًا لنا أكياسًا من الشاي الفاخر، عاد من الفلبين حاملًا لنا أنواع الهدايا، عاد من المغرب وعاد لنا بأنواع الملابس المغربية، حتى أصبح نصف الأطفال الذين يلعبون في حديقة الحارة وكأنهم مغاربة. في يوم من الأيام أردت تركيب أبواب للحديقة، سألته إن كان مصنعه يصنع الأبواب، أجاب: طبعًا. أخذ المقاسات، ثم جاء بعد أيام مع ثلاثة عمال لتركيبها، كانت الأرضية غير مستوية، واضطروا العمل ليومين على تركيب الأبواب، راقب أبو نبيه العمل طوال الوقت وفي الصيف الحار. كانت أبوابًا ممتازة، وما زالت. عندما ذهبت إليه أسأله عن التكلفة أجاب: ولو.. أنت جاري، والله ما أخذ منك. حاولت بشتى الطرق، لكن إصراره كان أكبر من محاولاتي! في يوم من الأيام ضرب ابني الصغير ابنه الذي كان يصغر ابني بعامين، كان طفلان تربطهما صداقة، لكنهما أطفال، يتخاصمان ويتصالحان في ساعة. جاءت أم نبيه غاضبة، قالت إنها لا تريد من ابني أن يلعب مع ابنها مرة أخرى. لم أكن موجودًا حينها، وعندما علمت شعرت بالضيق من ابني، عاتبته، وعندما شاهدت أم نبيه اعتذرت منها بشدة. بعد ساعتين عاد أبو نبيه من عمله، وجاءت أم نبيه لنا معتذرة، قالت إن أبو نبيه غضب منها وطلب أن تعتذر لنا! في جلساتنا في الإجازة كان يحدثني عن حلم عودته إلى وطنه، وكيف سيبني البيت الذي اشترى أرضه بجانب مجرى نهري صغير، كرر كثيرًا أن الإنسان بلا وطن يبقى تائهًا مهما جمع من المال. في يوم من تلك الجلسات حدثني عن الطبيب الذي يراجعه لمعالجة الكبد، قال إنه طبيب ممتاز، لم يبدو حينها أنه يشكو من شيء، وكانت تلك المرة الأولى التي أعلم فيها بمرضه، لكنه وبعد ثلاثة أشهر بدا أنه مُتعب، ثم بعد شهر واحد رحل عن الحياة، كانت المدة قصيرة لكي نفعل شيئًا عند طبيب آخر غير الطبيب "الممتاز" الذي كان يعالج عنده أكثر من عام. أذكر أن الطبيب الأخير قال له: "وين كنت.. لو جاي من سنة كان قدرنا نسوي شيء". لم يغب أبو نبيه من ذاكرتي رغم رحيله قبل أكثر من 12 عامًا، أعلم أن هناك جيرانًا طيبين في أنحاء الأرض، لكني لم أرَ أو أجد جارًا أطيب من أبو نبيه.