بياستري.. صوت هادئ وسط ضجيج الفورمولا

في عالم الفورمولا1، حيث تسود الضوضاء، وتُقاس الشهرة بالميلي ثانية، ظهر اسم أوسكار بياستري بطريقة مختلفة. لم يكن صاخبًا في حضوره، ولا استعراضيًا في تصريحاته، لكنه كان حاضرًا دائمًا حين تتحدث الأزمنة، ويشتد التنافس.
بياستري، الشاب الأسترالي الذي بات اليوم أحد الوجوه الواعدة في فريق ماكلارين، لم يصل إلى هذه المرحلة عبر ضوء الكاميرات، بل عبر سكون التركيز، ودقة التدرج، وصبر من يعي أن طريق الأبطال لا يُعبّد بالشهرة وحدها.
وُلد أوسكار في ملبورن، في 6 أبريل 2001، لعائلة لا تمتلك جذورًا في السباقات، لكن والده كان شغوفًا بالسيارات، ويعمل في هندسة الإلكترونيات. وفي سنٍ مبكرة، بدأ أوسكار يُظهر شغفًا بمركبات التحكم عن بعد، قبل أن ينتقل سريعًا إلى الكارتينغ، العالم الذي يبدأ فيه أغلب أبطال الفورمولا.
لم يكن يتحدث كثيرًا، ولم يكن محاطًا بضجيج إعلامي. لكنه كان يفوز. وفي رياضة مثل الفورمولا، الفوز كفيل بأن يصنع لك اسمًا، مهما كان صمتك طويلًا.
تدرّج بياستري في الفئات السفلية بطريقة لافتة. فاز ببطولة الفورمولا 3 عام 2020، ثم أذهل الجميع بالفوز ببطولة الفورمولا 2 في موسمه الأول عام 2021، وهو إنجاز لا يحققه كثيرون.
لكن لحظة الانفجار لم تكن قادمة بسهولة رغم كل ما فعله، قضى موسم 2022 على مقاعد الاحتياط كسائق تجريبي لفريق ألبين، في ظل غياب المقاعد الشاغرة. بدا وكأن موسمًا كاملًا من الانتظار قد يعرقل اندفاعه، لكن الأمور تغيرت فجأة.
في مشهد درامي، أعلن فريق ألبين عن ضم أوسكار، قبل أن يخرج الأخير عبر حسابه الرسمي لينفي ذلك بشكل صريح. القضية أثارت الجدل، وطرحت تساؤلات قانونية، وانتهت في النهاية بانتقاله إلى فريق ماكلارين في 2023، بعد جدل قانوني صامت ومواجهة إعلامية نادرة من الشاب الهادئ.
في أول موسم له، لم يكن بحاجة إلى وقت طويل ليثبت نفسه. رغم حداثته في البطولة، أظهر ثباتًا كبيرًا في الأداء، ونجح في تحقيق منصة تتويج خلال سباق اليابان، وكان له حضور قوي أمام زميله لاندو نوريس، أحد أفضل السائقين الشباب في الجيل الحالي.
أسلوبه في القيادة يُشبه شخصيته: مركز، منضبط، وهادئ. لا يدخل في معارك غير ضرورية، لكنه لا يتراجع حين تحين اللحظة. كأنه يختار بعناية متى يهاجم، ومتى يكتفي بالترقّب.
خارج الحلبة، يعيش أوسكار حياة بسيطة، بعيدة عن عدسات الفضول. قليل التصريحات، نادر الظهور الإعلامي، لكنه محبوب في paddock البطولة، ويكسب احترام الفريق والمنافسين على حد سواء.
في ماكلارين، يرونه مشروع بطل عالمي. فريقه يدعمه، يراهن عليه، ويُعيد بناء سيارة تنافسية تناسب قدراته الصاعدة.
وهو، رغم صغر سنه، يبدو مدركًا لحجم التحدي. لا يبالغ في الطموحات، لكنه لا يُخفي شغفه. يقول في إحدى مقابلاته القليلة:
«أنا لا أبحث عن إثبات نفسي للآخرين.. أريد فقط أن أكون جاهزًا عندما تأتي الفرصة».
وفي موسم 2024، لم يعد أوسكار بياستري مجرد موهبة صاعدة، بل أثبت أنه منافس جدي في الحلبة. حقق أول انتصارين له في سباقات الجائزة الكبرى، وأنهى الموسم في المركز الرابع في ترتيب بطولة السائقين، ما وضع اسمه بين أبرز السائقين الواعدين. ورغم تقدمه الكبير، استمر في الكفاح لمجاراة زميله لاندو نوريس بشكل مستمر على مدار السباقات، خصوصًا في مرحلة التصفيات وإدارة الإطارات، حيث بقي التفوق يميل لصالح السائق البريطاني، لكن المسار كان واضحًا: بياستري في تطور مستمر، وأداؤه لا يتراجع.
وفي موسم 2025، تغيّرت المعادلة. بدأ العام بقوة مذهلة، محققًا فوزه الأول في سباق جائزة الصين الكبرى، تبعه بانتصار مهم في سباق البحرين، ثم تألقه في جائزة اليابان بإنهائه على منصة التتويج في المركز الثالث.
لكن اللحظة الفارقة جاءت في سباق السعودية الكبرى على حلبة كورنيش جدة، حيث فاز أوسكار بالمركز الأول، وانتزع صدارة الترتيب العام لبطولة العالم، ليصبح أول أسترالي يتصدر جدول السائقين منذ مواطنه مارك ويبر في 2010.
فوزه الثالث هذا الموسم لم يكن مجرد نقطة في مسيرته، بل شهادة على تحوله إلى منافس فعلي على اللقب، متقدمًا على زميله نوريس وماكس فيرستابن في الترتيب، مع 99 نقطة في رصيده حتى الآن.
هذا التحوّل لم يحدث فجأة، بل كان نتاجًا لتراكم هادئ من العمل والانضباط والتعلم من كل سباق. أوسكار، الذي كان في يومٍ ما «السائق البديل»، بات اليوم من الأسماء التي تُحسب لها حساب. لم يأتِ لينال إعجاب paddock، بل ليكسب الوقت.
وفي الفورمولا 1، من يعرف كيف يُدير الوقت... يعرف كيف يفوز.