|




صالح الخليف
المثنى.. صديقي الذي لا يعرف العالم
2025-06-09
تتزاحم قائمة الأصدقاء في خيالي، وفي حياتي وفي ذكرياتي..
بعضهم عرفته من أيام الصبا، ولا يزال صامدًا في مشاوير العمر القصيرة.. بعضهم جاء كالضيف الخفيف.. جاء كنسائم صيف بارد تدغدغ ضفاف مدينة تطل على البحر الأبيض المتوسط.. بعضهم توارى من حسابات الزمن مثل بائع في سوق مزدحم لم تتبضع منه سوى مرة واحدة.. كان غريبًا.. غريبًا في مجيئه.. غريبًا في انزوائه.. وهذه هي الدنيا.. بعضهم جمعتنا بهم رحلة طائرة، أو جلسة مصادفة بلا موعد، أو بوساطة صديق مشترك وظل قريبًا وأنيسًا ومحببًا للنفس.. بعضهم رفيق دراسة الجامعة حيث تختار من يشبهونك بعناية فائقة، بعد وصولك لمرحلة متقدمة من الوعي والقدرة المتينة في تقسيم من يصلح أن يكون صديقًا، ومن يصلح أن يكون طيفًا مؤقتًا..
بعضهم تلاقت خطانا في مكان عمل، فانتقل من خانة الزملاء، إلى عداد الأصدقاء.. وهذا هو «المثنى».. رجل متحصن بمتانة أولئك الذين لا يجود الزمان بمثلهم.. ما كنت سألتقيه أو أعرفه دون علاقة عمل.. هذا مستحيل.. المثنى منكب تمامًا على عمله، فيكتب ويقرأ وكأن العالم كله مجرد كتابة وقراءة.. اختار طريقه، حتى مضت به رحلة الأيام إلى مشارف الثمانين.. دومًا يتحدث بشوق ونهم عن مشاريع الكتابة المستقبلية، رغم أن رياح العمر تجري متعجلة في اتجاه معاكس.. فعليًا، يعيش في زمنه هو.. لا زمن التغيرات والتقنية والمفاجآت المتسارعة.. يدخن بشراهة متجاهلًا كل الآثار المدمرة على صحته وجسده وبقائه.. متناسيًا الحرب الضروس التي يشنها الطب والمجتمعات على هذه العادة القاتلة.. ربما هذا ما جعل أسهم المثنى تتصاعد في نظري.. أحب المدخنين ولست منهم.. في طفولتي كنت أرى بمن يداعب السيجارة بين أصابعه إنسانًا متفردًا بقراره ومزاجه.. متمايزًا عن الطبائع الكلاسيكية المتوارثة بين البشر.. التدخين سلوك إنساني ربما يدل على التحدي والجرأة وتقرير المصير.. توفي والدي عليه رحمات الله من وراء التدخين.. هذا سبب آخر.. عجزت الليالي والأيام في تشويه صورة السجائريين في قلبي وروحي..
لا يتعاطى المثنى مع أي نوع من عوالم السوشال ميديا، ويراها موجة ركبها العالم ولن تصمد طويلًا في حياة البشر كما صمدت الكتابة والطباعة.. يراهن بقوة أن عمرها أقصر من عمر أسماك الزينة.. بهذه لا أتوافق معه.. ومن أجل هذا فقط أردت الكتابة عنه في مكان لم يعتد الذهاب إليه.. ليس رجلًا تلفونيًا.. لا يحمل جواله في كل حين.. أحيانًا يتركه في مكتبه.. أحيانًا يتناساه في منزله.. أبناؤه يعيشون حياة مستقرة بعيدًا عنه في أقاصي الأرض.. يتواصل معهم كما يقول كل أسبوع .. هذا نمط قديم في عالم مترابط وسهل وبسيط.. لكن المثنى لديه ما يؤمن به، ويتمسك به، ويتعايش معه بطريقة الحب من طرف واحد.. أجالسه كل شهر ونصف تقريبًا.. لا حديث طويل يدور بيننا.. السلام والسؤال المتجدد عن الصحة والعائلة، ثم شرح ممتد لإنجاز المهمة المتتابعة عمّا يستوجب علينا كتابته.. بلا هواجس.. بلا سلاسل متماسكة من الشكاوى وملامة الزمن.. بلا عبارات متذمرة من نوائب الدهر.. إيمان مطلق بالأقدار التي تسير إلى منتهاها.. هدوء يشع بالوقار والتعقل.. لا أعتقد أنها مكتسبات الحياة.. لدي يقين أن المثنى عاش مراهقته وشبابه برجاحة الفكر البعيد.. لم أسمعه يومًا يشتم، أو يحقر، أو يستنقص من نفس تتنفس فوق البسيطة..
يبتسم بعد كل طلب يهبط على مسمعيه.. كأنه يعتذر مسبقًا عن الرد الخاذل.. يشرب القهوة الداكنة بإفراط وتفريط.. يعتبر أبا نواس أعظم شعراء تاريخ الأدب العروبي.. يقول إن أبا نواس هذا كان مدخنًا ومن حزب القهوة المتطرفين.. يقول إن الحالة الإبداعية التي تلبست الشاعر العباسي يستحيل تخيلها برجل لا يدخن ولا يحتسي القهوة بإدمان..
المثنى ليس رياضيًا، بالمعنى المجرد للحالة وللكلمة، لكنه يحترم موهبة ماجد عبد الله.. هذا أيضًا سبب جدير يجعلني أنا أحترمه وأقدره.. من لاعبي العالم يضع يوهان كرويف، الأسطورة الهولندية، الأول بين مواهب كرة القدم.. أيضًا رأيه هذا يعجبني.. كرويف لم يجد من ينصفه ويعطيه المكانة اللائقة به.. مات هذا الهولندي بعد صراع مع المرض المؤلم فيما كانت السجائر الجسر الموصل للنهاية المحتومة.. تجاهل كرويف كل النصائح، واستمر يدخن بلا توقف حتى حان موعد الرحيل المرير..
يتعايش المثنى مع الحياة الرتيبة.. لا سفر.. لا أصدقاء كُثر.. لا هوايات ورغبات، أو مشاغل جسام، وترقب ما يستدعي الانتظار.. ربما هذا هو الشيء المثير الذي جعلني أتوقف عنده طويلًا، وأتفحص حالته وأحواله..
المثنى.. صديق أضعه وبكل حياد، في طليعة جوقة لا تستضيف سوى الندرة من الناس الذين مروا في حياتي.. مرة أخرى، أستعيد ملامح الأصدقاء.. أصدقاء أزدحمت بهم دروب المحبة والمودة، واللحظات الضاحكة.. لو ساندتني الأوقات المتفلتة لقدمت صفحات في كتاب متمرد، يحكي كل الأقوال المؤجلة عن تلك الوجوه التي ما كانت هذه الدنيا لتستقيم وتنهض وتهمس همسات النسيم الباردة، دون وجودهم وحضورهم ومساعدتهم.. سأكتب كل تلك التفاصيل الشاردة.. كل تلك البقايا المتناثرة تحت أنقاض الأغبرة المنسية.. المواقف.. المواعيد.. الصوت الصامت.. الكلمة التي توارت قبل صرخات الولادة..
أيتها الأزمنة المسكونة بأجواء ملبدة بالغيوم الحية.. تعالي بسرعة.. بسرعة.. فما عادت الأغاني المجنونة، وحدها الموكلة بالرقص والطرب..!!