عبد المحسن القباني
ليالي الشمال الحزينة
2025-09-06
جاء في الأخبار أن الأندية الجماهيرية الأربعة تريد الانتقال شمالًا. فالهلال أتم إجراءات نقل مقر التدريب من العريجاء إلى حرم جامعة الأميرة نورة، فيما الاتحاد والأهلي سيتموضعان في شمال جدة، أما النصر فيتحين فرصته في الرياض. للوهلة الأولى، يبدو الأمر طبيعيًا: منشآت عصرية بالقرب من مساكن اللاعبين. لكن المشهد الأعمق يكشف أن ما يحدث ليس مجرد تحديث عمراني، بل انعكاس لثقافة رياضية لم تعترف بالمكان منذ البداية.
فالأندية السعودية الكبرى ليست أسماء لأماكن. ليست «الخزان» ولا «الملز» ولا «التحلية»، بل قررت مبكرًا أن تختار أسماء فضفاضة: الاتحاد.. الأهلي.. النصر.. الهلال. مسميات رمزية بلا جذور جغرافية. على خلاف الجبلين والطائي في حائل، والوصل في دبي، أو الغرافة في الدوحة، أو الزمالك في القاهرة، حيث يشير الاسم مباشرة إلى المحيط الذي ينتمي إليه النادي. إن الأندية الأربعة عاشت منذ تأسيسها في هوية لا تعترف بالمكان، لكنها نفسها تعترف بأن المقر ليس جدرانًا، بل هوية. ففي التعريف الرسمي لمقر الاتحاد في حي مشرفة نقرأ:
«حي يعكس شخصية النادي: متجذر وشعبي ومرتبط بالناس. هذا المقر ليس مجرد منشأة رياضية. بل معلم تاريخي.. احتضن لحظات شكلت ذاكرة الاتحاد.. وفي صمت الغرف التي تُصنع فيها القرارات ويسكن التاريخ..».
إذا كان المقر بيتًا وذاكرة، فإن الشمال له حق أن يحزن حين يتهيأ لمبانٍ جديدة، لأنه شمالٌ يدرك أنه لا يقدر أن يورّث الأندية القصة التي جمعتها أحياؤها القديمة. فالمكان يربح عمرانًا وملاعب، لكنه يخسر ذاكرة الجماهير وروح المكان.
الحكمة الحضرية، التي تحدثت عنها جين جاكوبز في كتابها المرجعي «موت وحياة المدن الأمريكية العظمى The Death and Life of Great American Cities»، تقول إن المدينة القوية لا تنمو في اتجاه واحد فقط، بل بتعدد البؤر الحيوية. المدينة الناجحة تحتضن الشوارع والمقاهي والأزقة، فتولد حياة يومية حقيقية. وإذا تحولت أنديتنا إلى «مؤسسات عابرة»، تنقل مقراتها حيثما شاءت، دون اكتراث بذاكرة المكان، فإنها تستجيب لمنطق «المدن المؤقتة»: حيث فضاءات تُبنى وتهجر أو تُهدم بلا تراكم ولا جذور.
كرويًا، قد يربح اللاعبون دقائق إضافية من الراحة بقرب المقر من منازلهم، لكن كرة القدم تفقد أحد أسرارها الكبرى: ارتباط الفريق بالحي. فالأنفيلد في ليفربول، والسان سيرو في ميلانو، والبوكا جونيورز في لابوكا، ليست مجرد ملاعب، إنها جزء من هوية الأحياء، التي تحتضنها وتعريف بالجغرافيا. ولا عجب أن يعسر علينا توثيق رياضتنا، لأننا لا نكترث في مدننا بالذاكرة.