عبد المحسن القباني
أيام في البلقان
2025-10-04
عدتُ إلى الرياض بعد جولة قصيرة في منطقة البلقان. عدت بمزيج من الأحاديث والانطباعات عن كرة القدم في الخليج. في سراييفو عاصمة البوسنة، التقيتُ بمخضرمي اللعبة والإعلام في البلقان وأوروبا، وتحوّلت الأحاديث سريعًا إلى الدوري السعودي وحال الكرة عندنا.
في الطريق، قال لي سائق شاب إنه أحب النصر لكنه بالكاد يجد وقتًا لمتابعة أيقونته رونالدو، فالسعي وراء الرزق أولوية لا تسمح بالترف الكروي. وفي بهو أحد الفنادق في بريشتينا عاصمة كوسوفا، سألتُ شابًا عن مكان بث مباراة برشلونة وباريس. لم يجاوب ممازحًا حتى يعرف أي فريق منهما أساند، وحين سألته عن الدوري السعودي قال إنه لا يتابعه، لكنه يعرف أن رونالدو وبنزيما هناك. ثم باغتني بسؤال مباشر: «لماذا تأتون بهم؟».
أما الحوار الأعمق فكان مع صحافي إيطالي مخضرم، تحدث عن تجارب مانشيني وأمواله وبيولي ومحدوديته وإنزاجي وخطوته، ثم انعطف إلى الخليج. رأى أن ما يحدث لدينا مشاريع كروية طموحة لكنها بلا إرث أو تقاليد راسخة، وأنها كرة بلا صيت. يستدل أنه لا يتذكر اسم أي لاعب خليجي طوال مسيرته الصحافية التي امتدت لأربعة عقود. وعن أهمية بناء الصيت والتقاليد، فاستشهد باليابان حين أعلنت أنها تخطط لخمسين سنة من البناء الكروي، معتبرًا أن تلك المدة كافية لصناعة إرث يورَّث ويتجدّد، تتبعه إنجازات متواصلة ومنافسات تحفظ الاستمرارية. أما بوسني دولي معتزل، فحاول معي استذكار لاعبي البلقان في الدوري السعودي، فأخذت أعدد عليه من بروزوفيتش وسافيتش.. فيما لم ينتبه أن ميتروفيتش انتقل إلى دوري قطر.
في البلقان، حيث تعرّضت الدول للحروب والانقسامات، لا تزال كرة القدم تورَّث كما تُورَّث الأغاني الشعبية والأطباق التقليدية. هذه الديمومة جعلت المنطقة الصغيرة قادرة على إنجاب لاعبين ومدربين يتوزعون على العالم، لأن الإرث لا ينقطع.
أما في السعودية، فالصورة اليوم مطلية بأسماء النجوم الوافدين، وهذا جعل من المسابقة السعودية ثورة إخبارية لا فنية. إن أدركنا أننا نعيش حالة إعلامية، فهذا نصف الحل، وينقلنا لمواجهة التحدي الحقيقي في تحويل الحاضر الصاخب إلى مشروع طويل المدى يشمل مدارس وأكاديميات وتدرج زمني وصبر، والاستمرار في تجويد حياة المدن والمحافظات كي يزداد عدد ممارسي الكرة، فتزداد فرص العثور على المواهب. عندها فقط يستطيع صحافي أوروبي بعد سنوات أن يتذكر اسم لاعب سعودي كما يتذكر أسماء أساطير يوغوسلافيا السابقة.
رحلة أسبوع في البلقان لم تكن مجرد انتقال جغرافي، بل كانت مرآة عاكسة: كيف يرى طيف من الخارج كرتنا؟ وكيف يمكن لصخب النجوم أن يتحول إلى إرث متعاقب على مدى أجيال؟