أرنولد.. نجار غيّرت حياته وصية الموت

الرياض - إبراهيم الأنصاري Ibrahimal_ansar@ 2025.10.11 | 02:32 pm

في نيو ساوث ويلز، يختبئ سرٌ عميق تحت منزل جدة قديم، في مرآب مظلم يتسلل إليه ضوء الشمس خلسة، مثل لصوص في ليلة قاسية البرودة.
هناك، لمدة 22 عامًا، قضى جراهام أرنولد الفتى الذي أصبح أسطورة «السوكيروز» طفولته المتواضعة مع والديه وشقيقه الأكبر، يرتب أحلامه على رفوف الفقر دون أن يدري أن هذا المكان المهمل سيكون مهد نجم كرة قدم لامع.
ولد جراهام جيمس أرنولد في 3 أغسطس عام 1963، في الولاية الجنوبية الشرقية الأكثر اكتظاظًا في أستراليا، لكنه لم يكن طفلًا عاديًا، كان قوي البنية، ضخمًا كالصخرة.
أبوه، باري، كان مدمنًا على الكحول، كل ليلة في الحانات، على الرغم من شغفه الجامح بكرة القدم.
«لم نذهب يومًا في رحلة عائلية» يروي أرنولد بصوت يرتعش من الذكريات، «ولا حتى لوجبة عشاء بسيطة معًا.. كان أبي في الحانة كل يوم وليلة.. يمكنني أن أعد على أصابع يد واحدة المرات التي اجتمعنا فيها جميعًا حول مائدة الطعام».
وجد الفتى ملاذه في الرياضة، يفرغ غضبه في الكريكيت بضربات قوية كأنها انتقام من الأعداء، وفي كرة القدم يقف حارسًا للمرمى، يحمي الشباك كقلعة لا تُخترق.
في الثامنة من عمره، شارك في نهائي بطولة في كيراوي مع فريق ساذرلاند، وسط هتاف الجماهير، لكن.. غادرت سيارة والديه قبل دقائق قليلة من الصافرة النهائية.
خمسة كيلومترات مشيًا تحت شمس حارقة تُذيب الروح، عاد جراهام إلى المنزل وحده.
«إذا خسر فريقي، ذهب أبي إلى الحانة مباشرة، وكانت أمي تطلب مني النوم قبل عودته».
في السادسة عشرة، أصيبت والدته فاي بسرطان الثدي، وفي ثلاثة أشهر فقط، أعلنت الطبيبة حكمها القاسي قبل أن تغمض عينيها إلى الأبد. تحملت الألم لشهور طويلة، رافضة زيارة الطبيب، ثم استُئصل ثديها وبدأت جلسات الكيميائي، محتجزة في المستشفى كطائر مقصوص الجناحين. تخلى جراهام، الفتى الهارب إلى الملاعب، عن الكرة والكريكيت، يقضي وقته إما بجانب سريرها أو مع الأصدقاء في احتفالات جامحة تخفي جروح قلبه.
ترك المدرسة باكرًا، أصبح متدربًا نجارًا وبائعًا جزئيًا، يتجول الشوارع تائهًا.
وفي الساعات الأولى من 15 يناير عام 1984، رحلت فاي إلى الأبد.
قبل أيام قليلة، أمسكت بيده، نظرت إليه بنظرة ثاقبة تخترق الروح: «لديك موهبة فريدة، استمتع بها إلى أقصى حد، لا تكن متشردًا مثل أصدقائك».
في تلك اللحظة، كان جراهام بالكاد يلمس الكرة، لكن كلماتها كانت سحرية، أقلع عن الكحول، ترك النجارة، وعاود التمرين كوحش جائع. في عامين فقط، ارتدى قميص منتخب أستراليا.. بعد ستة أعوام انضم إلى نادي رودا جي سي الهولندي، لعب في كأس أوروبا، ثم انتقل إلى بلجيكا واليابان. عند اعتزاله في الـ 36 من عمره، كان قد سجَّل 161 هدفًا في 453 مباراة.
بدأ مسيرته التدريبية عام 1989 مع سيدني، ثم نورثن سبيرت حتى 2001.
كان مساعدًا لمدرب «السوكيروز» من 2000 إلى 2006، ثم تولى قيادة المنتخب في 2006ـ2007.
قاد سنترال كوست مارينرز من 2010 إلى 2013، وفيجالتا سنداي في 2014، قبل أن يعود إلى سيدني بين 2014 و2018. في 2018، تولى تدريب المنتخب الأولمبي، وقاده إلى طوكيو، ثم المنتخب الأول إلى دور الـ16 في كأس العالم 2022.
غادر في سبتمبر 2024، عمل مستشارًا مؤقتًا في «ساوث سيدني رابتوز»، قبل أن يفتح له بابًا جديدًا في مايو 2025، حين عُيّن مدربًا للمنتخب العراقي، خطوة جريئة عابرة للقارات.
اليوم، في الـ 62 من عمره، يقف أرنولد على شواطئ عروس البحر الأحمر، يحمل أملًا في إعادة العراق إلى مشهد غابت عنه 39 عامًا.