لا توجد فترة زمنية كثرت فيها النصائح أكثر من زمننا، حتى في زمن الفلاسفة اليونان لم تكن بهذه الكثرة، وفي نفس الوقت لم يشهد التاريخ الكم الكبير من المشاكل النفسية التي يعاني منها بشر اليوم، العيادات النفسية أصبحت شيئًا عاديًا، بعدما كان الذهاب إليها شبهة جنون، ومطورو الذات أصبحوا في كل مكان، حتى صديقي القديم وبعدما تحدث مطولًا وأظنه أُعجب بكلامه، فاجأني بالقول: ما رأيك لو أعمل مطور ذات.. لقد استمعت لكلامي.. هل يقل عن الذين يقدمون دروسًا بفلوس؟ مشكلة الحياة أن لا شيء فيها لا يقابله شيء آخر، تعيش بعاطفتك الجياشة يستغلك الكذابون، تقسو فتكتشف أن الحياة لا تستحق القسوة، تكون صادقًا يغضب منك أصدقاؤك ويتجنبونك، تجاملهم تشعر بأنك تخدعهم وغير مخلص لهم، تنزوي وتقرأ الكتب يزداد وعيُك، يزداد وعيك فينفتح عليك باب يُدخلك في غربة وأنت في بيتك، تضع وقتك وجهدك في العمل فتخسر علاقاتك الإنسانية، تتعمق في علاقاتك الإنسانية تجد نفسك وسط مشاكل لم تصنعها، تدخل «بيزنس» تجد نفسك وسط أسماك قرش لا تعترف بالرحمة، تكتفي براتب وظيفتك تجد نفسك مشلولًا أمام من يحتاج مساعدة مالية، تحاول العيش بمرح فينكسر قلبك عند سماع الأخبار الحزينة، تعيش فقيرًا لا يحترمونك، تعيش غنيًا يحيطك المنافقون. تعلمت أنك في الحياة لا تحصل على شيء بلا مقابل، حتى الاحترام الذي يبادلك الناس به تكون قد دفعت ثمنه من الالتزام والأخلاق العالية واحترام الآخرين. من يظن أن العيش بوسطية هي الحل في ما ذكرته، أقول له إن إجابته صحيحة، لكنها حل يصعب الوصول إليه. الصعوبة ليست في أن تكون وسطيًا في أمر ما، بل في أن تكون وسطيًا في كل الأمور، وفي هذا حرب دائمة مع نفسك، لن تنتصر في كل معاركك معها، وقد تخسر بسبب معركة واحدة الحرب كلها، مع الأخذ في الاعتبار أن وسطيتك ـ إذا حققتها ـ قد يراها المقابل تطرف، والمخيف أن تعيش فعلًا حياة في أقصى اليمين أو اليسار مؤمنًا كل الإيمان بأنك وسطي. كل من استطاع العيش بوسطية حقيقية هو عبقري، والعباقرة في الدنيا كانوا وما زالوا نادرين.