أحمد الحامد⁩
صفارة فرانكلين
2025-12-29
في العام 1778 كتب بنجامين فرانكلين «عالم ودبلوماسي أمريكي» رسالة خاصة إلى مدام بريون «صديقة ومثقفة فرنسية» كانت الرسالة ضمن عشرات الرسائل التي تبادلاها. في الرسالة روى فرانكلين قصة شخصية بعنوان «لا تدفع كثيرًا من أجل صفارتك» فيها توصية ذهبية للناس، وحكمة تضمن توازنهم، وتبعدهم عن المبالغات في دفع الأثمان. الكاتب أراد وصف حال الأغلبية التي لا تسيطر على رغباتها المندفعة، وحالتهم عندما يعيشون الربع الأخير من عمرهم. هذه القصة القصيرة بقيت في ذاكرتي منذ قراءتها الأولى، وأذكر أنني نشرتها قبل سنوات، وقرأتها في برنامج إذاعي، أعيد نشرها لما فيها من فائدة حاسمة إذا تم الأخذ بها.
«كنت في السابعة من عمري ورأيتها في فم جاري الصغير يلعب بها في مرح ونشوة.. واشتهتها نفسي، وتعلقت بها فكانت شغلي الشاغل، وطالت فترة حرماني منها حتى جمعت لها كل ما أستطيع من مال.. كانت من الإغراء بحيث شغلتني عن سائر اللعب التي يملكها أقاربي، والتي كنت أراها تزين واجهات محال اللعب، وقصدت حانوت لعب الأطفال، ولم يزحم فكري سوى الصفارة المرموقة، ودفعت فيها كل ما أملك، واختطفتها من البائع في سعادة ونشوة، وعدت بها إلى البيت عدوًا وأنا أرسل منها صفيرًا متواصلًا يملأ نفسي سعادة ونشوة رغم ما سببه هذا الصفير من إزعاج لكل من في البيت، وعندما علم إخوتي، وأصحابي بقيمة ما دفعته ثمنًا لهذه الصفارة، اندهشوا كثيرًا من حمقي.
لقد كان ما دفعته أربعة أضعاف ثمنها، وكان من الممكن لو أنني ضبطت عواطفي، وأحسنت التصرف ولم أتسرع في الشراء لكان لدي الآن فوق هذه الصفارة كثير من الأشياء النافعة واللعب القيمة، وبدأت أفيق من نشوتي وشعرت بالأسى والحزن أضعاف ما كنت أشعر به من السرور والسعادة حين اشتريت هذه الصفارة، وبقي أثر هذا الحادث محفورًا، في ذاكرتي ومسيطرًا على أفكاري بعد ذلك فكنت لا أفقد اتزاني قط عندما تشتهي نفسي شيئًا يعجبني.. كان يهتف بي من أعماقي هاتف يقول:
- لا تدفع في صفارتك أكثر مما يجب.
ولقد وفرت كثيرًا بهذه الحكمة، وعندما كبرت، ودخلت معترك الحياة، وبدأت أرقب سلوك الآخرين، رأيت كثيرًا من الناس يدفعون أكثر مما يجب من أجل صفاراتهم.. فهذا بخيل هجر كل أسباب الرفاهية والحياة الكريمة، وضحى بكل المتع العاطفية التي يستمدها الفرد من إحساسه بالانسجام مع الجماعة في سبيل احتفاظه بالمال.. إنه يدفع كثيرًا.. بل كثيرًا جدًا من أجل صفارته.. إن هفته على المال أضاعت عليه كل شيء، وكم قابلت ضروبًا من الناس تستبد بهم شهوات حسية يضحون في سبيلها بعقولهم وثرواتهم وصحبتهم وكرامتهم، ويستدر كل منهم رثائي فأقول:
ـ يا للبؤساء.. إنهم يدفعون كثيرًا وكثيرًا جدًا، كما دفعت أنا ثمنًا غاليًا لصفارتي.
أما أولئك المغرمون بالحياة البراقة، والمظاهر الزائفة فينفقون في سبيلها فوق ما تحتمل ميزانيتهم ثم يستدينون، وكثيرًا ما ينحرفون ليشبعوا رغباتهم الجامحة العابرة، ثم يقضون بقية أعمارهم في ندم أليم.. إنهم يدفعون ثمنًا غاليًا جدّا من أجل صفاراتهم. لقد أصبحت أعتقد أن كثيرًا من الكوارث والمصائب التي تحل بالإنسانية راجع إلى سوء تقدير الناس لقيم الأشياء التي تستهويهم.. إنهم يدفعون كثيرًا من أجل صفاراتهم».