أيوب الكعبي.. قاهر الجاذبية.. من الورشة إلى المجد
بملامح تعكس صرامة «ولاد الشعب» وهدوء الواثق الذي لا يستعجل نصيبه، يطل أيوب الكعبي، مهاجم منتخب المغرب الأول لكرة القدم، بوجهٍ أسمر حفرت فيه شمس «الدار البيضاء» تفاصيل رحلة كفاح مريرة. هو ذاك المهاجم الذي لم تأتِ نجوميته عبر بوابات الأكاديميات الفارهة، بل صُهرت موهبته في أفران التعب، هاربًا من ضيق ذات اليد إلى رحابة الشباك، متمسكًا باليقين المغربي الذي يقول: «لي بغا العسل، يصبر لقريص النحل».
وُلد أيوب الكعبي في 25 يونيو 1993، في حي «درب خدام» بمنطقة الهراويين، أحد الأحياء الشعبية بمدينة الدار البيضاء، حيث تتشابك البيوت الإسمنتية وتزدحم الأزقة بالأحلام الموؤدة. هناك، وسط ضجيج العاصمة الاقتصادية للمملكة المغربية، نبت أيوب في بيئة تكسب قوتها بعرق الجبين، حيث يمتزج صخب الموانئ بصناعات النسيج، وتغدو كرة القدم هي النافذة الوحيدة ليرى الطفل ما وراء أسوار الحي الضيقة.
لم يبدأ أيوب حياته كـ«مليونير» الكرة، بل بدأها عاملًا بسيطًا يحترف «النجارة»، يمضي نهاره بين نشارة الخشب ومطارق الحديد ليعيل أسرته، ويقضي مساءه يطارد كرة مهترئة في ملاعب ترابية لا ترحم الركبتين. كان يدرك أن جسده الذي أنهكه الوقوف في ورشات العمل، هو ذاته الجسد الذي سيحمل آمال المغاربة يومًا ما، تمامًا كما قال عن تلك المرحلة: «النجارة علَّمتني الصبر والدقة، وفي منطقة الهراويين تتعلم أن تعيش مقاتلًا أو لا تعيش».
يروي المقربون من «الفتى الذهبي» أنه لم ينسَ قط الوعد الذي قطعه لوالدته عندما كان لاعبًا في أقسام الهواة بـ «نادي الراسينج البيضاوي». حينها، كان يقتسم دراهم قليلة بين أجرة النقل ووجبة الغداء، لكنه همس في أذنها: «سيأتي يوم تفتخرين فيه بابنك أمام الجميع». الوفاء لم يكن لوالدته فقط، بل لمدربه الأب الروحي عبد الحق رزق الله «ماندوزا»، الذي آمن بأن هذا النجار يمتلك قدمًا يسرى لا تخطئ طريق المرمى، لينفجر الكعبي في بطولة أمم إفريقيا للمحليين «CHAN 2018»، محطمًا الأرقام القياسية بـ 9 أهداف، وهي اللحظة التي قلبت حياته رأسًا على عقب، تمامًا كصعود دياز الصاروخي في طوكيو.
عكس النجوم الذين تفتنهم أضواء الشهرة سريعًا، ظلَّ الكعبي محافظًا على «رصانته» البيضاوية. لم تكن رحلته مفروشة بالورد، إذ اصطدم ببرودة الغربة في الصين مع فريق «هيبي فورتشن»، لكن حنينه لـ «مركب محمد الخامس» وأهازيج «الوداد» أعاده مرتين إلى حضن الدار البيضاء. في منزله، لا يغيب التواضع، فهو الذي تزوج في حفل عائلي بسيط بعيدًا عن صخب النجومية، مفضلًا الاستقرار الذي يمنحه القوة للتألق في ملاعب تركيا واليونان لاحقًا.
في مسيرته الدولية، عاش الكعبي منحنيات متفاوتة، من مجد الـ «شان» إلى دكة البدلاء في مونديال روسيا 2018، وصولًا إلى استبعاده المرير من قائمة «أسود الأطلس» التي حققت الإنجاز التاريخي في مونديال قطر 2022. كان الاستبعاد طعنة في كبرياء المهاجم، لكنه بدلًا من الاستسلام، ردَّ في الملاعب الأوروبية، محطمًا شباك الخصوم مع «أولمبياكوس» اليوناني، ليقودهم إلى مجد قاري غير مسبوق، ويجبر «وليد الركراكي» على إعادة فتح أبواب المنتخب له من أوسع الأبواب.
بذات العنفوان الذي يضرب به النجار مسماره، طوّر الكعبي تخصصًا نادرًا جعل من جسده في الهواء «قطعة فنية» تتحدى قوانين الجاذبية، حتى باتت الأهداف «المقصية» أو «Double Kick» هي العلامة المسجلة باسمه في سجلات «أولمبياكوس» اليوناني والمحافل القارية.
في اليونان، لم يعد أيوب مجرد مهاجم يقتنص الكرات، بل تحوَّل إلى «أسطورة طائرة» في ملعب «كارايسكاكيس». ولعل اللحظة التي حبست أنفاس أوروبا كانت في مسابقة «دوري المؤتمر الأوروبي»، حين ارتقى بظهره للمرمى، ضاربًا عرض الحائط بكل قيود الرقابة الدفاعية، ليرسل كرة مقصية سكنت الشباك، معلنًا عن ولادة «ماركة مسجلة» للاعب لا يسجل الأهداف العادية، بل يختار أصعب الطرق وأكثرها جمالية. لقد أصبح تخصصه في هذه الضربات يثير رعب الحراس، فبينما ينتظر المدافع كرة رأسية، يفاجئهم أيوب بـ «انقلاب هوائي» يجعله أقرب إلى لاعبي الجمباز منه إلى لاعبي كرة القدم.
مع «أسود الأطلس»، كانت المقصية بالنسبة للكعبي أكثر من مجرد هدف، كانت بمثابة «بيان رسمي» لإثبات الأحقية. فبعد عودته من استبعاد مونديال قطر، استعرض عضلاته الفنية في عدة مناسبات، أبرزها أهدافه في التصفيات الإفريقية التي أعادت إلى الأذهان زمن المهاجمين الكلاسيكيين الكبار. هو لا يكتفي بالوجود في الصندوق، بل يطارد الكرات العالية والضائعة، ليحوّلها بلمحة خاطفة إلى لوحة سينمائية، وكأنه يرسل رسالة صامتة لكل من شكك في قدراته: «أنا لا أحتاج للتمركز المثالي، أنا أصنع المثالية من الهواء».
اليوم، يخوض أيوب الكعبي أصعب اختباراته بقميص المنتخب المغربي، في ظل ضغوط الجماهير التي لا تقبل بأقل من الذهب الإفريقي. ومع استعادته غريزة التهديف القاتلة وتطوره التكتيكي المذهل في ملاعب القارة العجوز، يرى فيه المغاربة «المنقذ» الذي طال انتظاره لفك عقدة الهجوم، مرددين في مدرجاتهم: «هذا ولدنا.. من قلب المحنة صنع المنحة»، ومن مطرقة النجارة إلى شباك المونديال، يبقى الكعبي قصة ملهمة عن الشاب الذي لم يحرق ذيله من القش، لأنه ببساطة كان هو النار التي تلتهم شباك الخصوم.