|


صالح الخليف
من راقب المقالات مات همّا
2020-02-21
لا شيء يزعج رؤساء التحرير في كل الصحف أكثر من المقص الذي يحملونه يوميّا في جيوبهم ويسمى مجازًا بمقص الرقيب..
ولا شيء يؤلم الكاتب أكثر من كلمة صارت في عوالم التغييب اجتزها ذاك المقص وذاك الرقيب لأسباب يندرج بعضها بين أقواس ليس كل ما يعلم يقال..
قبل قرابة الاثني عشر عامًا وفي أحد أيام الصيف مرت “الرياضية” بفراغ كبير من قياداتها بحكم الإجازات والظروف الطارئة.. كان الزميل عبدالرحمن الجماز يتولى حينها مسؤولية رئاسة التحرير بالإنابة، ولعارض صحي مفاجئ لم يتمكن من الحضور.. تلقيت منه اتصالاً وكنت وقتها محررًا، وكلفني بقراءة المقالات وإجازتها.. قرأتها بعناية وحرص واهتمام فائق.. جميعها كانت عادية وليس فيها ما يستحق التوقف.. مقال واحد فقط ناله القص والبتر والتشطيب.. كان الكاتب ينتقد لدرجة الهجوم والتوبيخ والازدراء مسؤولاً رفيعًا في أحد الأندية الجماهيرية.. خرج المقال هادئًا ولطيفًا وناعمًا.. بالطبع لم أكتب حرفًا واحدًا ولم أضف كلمة واحدة، لكنني قصصت كل سطر وكل جملة وكل عبارة صنفتها بالمارقة.. في اليوم التالي عاد الكاتب يشجب وبضراوة ما فعله مقص الرقيب بمقاله.. تمر الأيام سريعة عجلة وتتبدل مواقف هذا الكاتب من ذلك المسؤول، وفي غضون شهرين أو أدنى يعود ويكتب عنه معلقة من المدائح التي لا يجود الزمان بمثلها.. لا أقول بأنني حميت ذلك الكاتب من نفسه، فحتى اليوم وعقب مرور هذه المدة الطويلة لا يعرف من قص مقاله وأنقذه من تسرعه أو من حساباته المرتبكة.. أستذكر حادثة عابرة في مشوار الصحافة ليس لجسامتها أو ندرتها أو غرابتها، لكنها جالت في خواطر الزمن عندما جاء طاري الرقابة.. رؤساء التحرير صحفيون ويدركون تأثير شطب كلمة أو مفردة في مزاج كاتبها، ويتمنون أكثر أن تمتلئ صحفهم وصفحاتهم بكلام جريء وقوي يجذب القراء والمتابعين، لولا أن لديهم حسابات مهنية وأخلاقية وإنسانية ووطنية واجتماعية ترتب الأولويات والبديهيات.. الرقابة حمل يومي ثقيل على أكتاف رؤساء التحرير والمصطفين بجوارهم، بل إنها المهمة المزعجة التي تجعلهم في صراع لا يتوقف مع الانتصار لأخلاقيات المهنة المتعبة.. تأتي المقالات التي تحتاج رقابة أكثر صرامة وأكثر تنبهًا وانتباهًا لأنها تنقل آراء قد تلهث بعضها وراء أهداف شخصية أو تحقيقًا لانتصارات ميولية وانتمائية في وسط رياضي صاخب إذا كنا نتكلم عن رقابة المقالات الرياضية.. بعد هذه السنين في الصحافة عرفت وأيقنت وآمنت أن من راقب الناس وراقب المقالات مات همًّا..
.. الرقابة وحدها التي جعلت للصحافة وزنًا وموثوقية ومصداقية، فرئيس التحرير أي رئيس تحرير لا يتفق مع آراء كتاب صحيفته.. لكنه حينما يسمح بنشر المقال فإنه يعد شريكًا استراتيجيًا في ما ذهبت إليه كلمات المقال..
بعض الكتاب يقول هذا رأيي وأنا أتحمله.. كلما سمعت هذه الكلمات أعرف جيدًا الفرق الكبير بين الصحافة والكتابة..