هذا رمضان.. له طقوسه وخصوصياته وأجواؤه وطبائعه وذكرياته.. بالطبع ما من شهر يشبهه أو يوازيه أو يناهزه عندنا.. لكن هذا ليس موضوعنا..
وما هو سالفتنا وحكايتنا.. كلما أقبل رمضان هذا الذي يستبشر الناس بقدومه ويبتهجون بحضوره ويستأنسون بتهاليله.. انهالت عليك رسائل التهاني والتبريكات والابتهاجات.. بالطبع نواياها طيبة وأهدافها نبيلة ومقاصدها كريمة.. لكن القضية ما عادت مجرد تهنئة عابرة لشهر فضيل.. فبعد التأقلم والتعايش مجبرين لا أبطالاً مع الرسائل الجماعية التي تتدفق ليلة رمضان وليلتي العيدين.. والتي تتركك محتارًا أتتجاوب معها وترد عليها أم تتجاهلها وتتركها مجرد حمل زائد على ذاكرة جوالك.. هذا قرارك وأنت وهو وأنا أحرار كما خلقنا ربنا في هذه الدنيا.. ما عادت الرسائل الجماعية هي وحدها ما يثير الاستغراب والاشمئزاز والصدمة.. الحالة تطورت في العامين الأخيرين وصارت أكثر سينمائية وأكثر هوليوودية وأكثر مسرحية.. تصلك الرسائل الآن بتصاميم ورسومات وصور وأناشيد وأغانٍ.. كأن الأزمان تعيد نفسها.. عندما كنت صغيرًا يثيرني أولئك الذين تزدحم جدران وطاولات استديوهات الصور الفوتوغرافية بصورهم.. رغم أنهم من عامة الناس ولا يعرفهم أحد..
تجرأت مرة وسألت صاحب الاستديو الصغير في رفحاء عن سر اختياره لهذه الوجوه.. فقال إنهم هم من يطلبون ذلك وأنا لا أمانع.. قبل رمضان بأيام طالعت إعلانًا في أحد حسابات تويتر عن تزويد من يرغب بتصاميم خاصة لتهنئة أحبابه وأصدقائه ومعارفه.. وهذا لا يكلف أكثر من تسعة وتسعين ريالاً بحسب الإعلان.. مثل غيري جاءتني عشرات الرسائل وهذا كما ألمحت بات سلوكًا اجتماعيًّا هناك من يرفضه وهناك من يقبله ويعمل به.. وهناك من لا يحسب له أي حساب.. واحدة من تلك الرسائل أظنها تصلح أن تكون إعلانًا لتدشين حملة انتخابية أمام منافس شرس على مقعد في برلمان إحدى جمهوريات الموز.. ثلاث صور مختلفة وسيرة ذاتية مختصرة وبيت من الشعر وعبارة خالدة لشكسبير ورمضان كريم مع حفلة ألوان صاخبة.. هو واحد من القلائل الذين اضطررت للرد عليه.. قلت له أهنئك على قدوم رمضان وأهنئك على هذا التصميم الذي لم يسبقك إليه أحد من العالمين..
السؤال الدارج تحت مظلة السهل الممتنع.. أما يعرف أصحابنا وأحبابنا المهنئون أن هذه التصاميم ما هي إلا جهود مهدرة وشاردة ولا يهتم بها أحد.. بعضهم يطلبها من صديق لديه خبرة ودراية بهذا النوع من التصاميم.. وبعضهم يجدها جاهزة على أرصفة ومواقع النت.. وبعضهم يدفع من حر ماله ليظهر باسقًا لامعًا في ليلة اكتظاظ التهاني والتبريكات.. وأيًّا كانت الوسيلة والطريقة فما هي إلا مضيعة للوقت والمال وأحد أسباب ومسببات الصداع الجديدة..
بالنسبة لي فتحت بابًا آخر ونافذة حديثة.. فمن خلال التهنئة وكلماتها وعباراتها وأيضًا تصاميمها.. صرت أميِّز بين الرجال وتفكيرهم.. كانوا يقولون في قوانين التربية والعلاقات الاجتماعية: قل لي من تصاحب أقل لك من أنت.. والآن يمكنك أن تقيس نظرة الناس للحياة والأشياء بطرق أسهل ووسائل أبسط.. فقط افتح جوالك وتجول بين رسائل المهنئين وستعرف أن العالم يمتلئ برجال تعرفهم عز المعرفة لكنهم لا يشبهونك.. يبدون لك في غفلة من الأيام السائرة أنهم هم أنفسهم المتصلبة صورهم على جدران الاستديو الرفحاوي الصغير.. لا تعرفهم وإن عرفتهم تزداد توهانًا واستغرابًا وتعجبًا.. وتتصارع مع سؤال غابر ليس له إجابة: كيف فعلوا هذا؟