|


أحمد الحامد
الله حسيبك
2018-04-26

أول وظيفة عملت بها "بارت تايم" هي "قهوجي" في "ديوانية" والدي. كنت أمارس هذه المهنة لعدة أسباب، أولها لكسب رضا والدي، وثانياً لأن للأحاديث في الديوانية متعاً لا أجدها في الخارج، وثالثاً كنت أقوم بواجبي خاصة إذا ما هرب إخوتي الأكبر سناً ذلك اليوم. 



ما زلت أذكر موقعي جيداً، أجلس عند المنتصف في المدخَل، محاولاً أن أتقمص دور الرجل الجاد عند دخول أحد رواد الديوانية، سريعاً أعمل في صب الشاي والقهوة، صامتاً في أغلب الأحيان، وكلما احتاجت "البيالات" إلى الغسيل خرجت من الديوانية وغنيت بصوت عالٍ أقرب أغنية تدور في ذهني، دون علم مني أن روّاد الديوانية قد اعتادوا على غنائي وأصبح شيئاً مألوفاً لديهم دون تأنيب من والدي تجاهي، إلا تلك المرة التي اكتشفت أنهم كانوا يسمعون غنائي منذ زمن وكل الإيقاعات والصولوهات التي أفتعلها في فمي. في يوم من الأيام كان هناك ضيوف غرباء ولم يكن أحد من إخوتي موجوداً، مارست عملي بكل حرفية، وعندما خرجت لغسل "البيالات" غنيت أغنية" الله حسيبك.. الله حسيبك.. مهما تعذبني مقدر أسيبك "خرج والدي وقال لي معاتباً" يا بابا ما يصير تغني والناس موجودون في الديوانيه.. كنت ساكتاً عنك لأنك صغير.. الحين أنت كبرت واليوم عندنا ضيوف".



أتصور أنني مارست جزءاً من العمل الإذاعي منذ أن كنت صغيراً أصب الشاي والقهوة، كان لدي مستمع واحد دائم، يجلس دائماً بالقرب من المكان الذي أجلس به، أبو عبدالله رحمه الله، كنت ألقي عليه بصوت منخفض جداً بعض الكلمات التي أحفظها من الأغاني، لا شك عندما كبرت عرفت أنه كان ناقداً غير عادي، لكنه لم يكن يملك مفردات الناقد عند تعليقه على كلمات مذهب أو كوبليه من أغنية، كنت إذا ما أسمعته كلمات أغنية وأعجبته كان يقول "إيه هذا شعر زين" وإذا لم تعجبه الكلمات كان يقول" لااا... هذا  شعر طايح حظه".



في الديوانيه كنت أتلقى بعض المديح كلما كنت سريعاً في تقديم "السيرفس"، وللمديح مهما تواضع الإنسان تأثير خفي، لكن المادحين لم يخلوا من مصلحة، لأن مديحهم كان يأتي بعد خدمة ما.. إما كأس ماء أو "بيالة" شاي أو فنجان قهوة، أكثر كلمة سمعتها بعد صب الشاي أو القهوة لأحدهم كانت "عشت... نخدمك في يوم زواجك" تتبعها نظرة من القائل نحوي يتابع بها وقع كلماته، خاصة إذا ما ابتسمت ليبتسم أو يضحك هو الآخر، معظم رواد الديوانية من الكبار رحلوا، وجوههم وضحكاتهم ما زالت باقية.