الكتابة كالصحراء تظنها خالية خاوية على عروشها، فيما هي ثكلى بتفاصيل تعد وتحصى.. مخلوقات ونباتات وحشرات وضباع وذئاب وأنواع مترعة من الأتربة والأحجار والحصى.. عوالم من المتشابهات والمتناقضات..
وسبحان الذي أبدع كل شيء خلقه.. الذي يكتب الرواية العميقة الصاخبة الفائزة بجوائز عالمية، سيفشل إذا طلب منه كتابة مقال قصير لا يتجاوز ثلاثمئة كلمة عن بدايات تساقط الثلوج على العاصمة النمساوية فيينا في بدايات فصل الشتاء.. ربما لا يكون لديه وقت للاختصار..
من يكتب الدراسات الإنسانية والاجتماعية لن يستطيع كتابة قصة قصيرة عن إنسان غلبته ظروف الحياة وأنكاد الزمان، وبات يلتحف السماء، متشردًا في أرض الله الواسعة كما هي قطط حارات القرى الشاردة.. المنغمس في كتابة الأبحاث العلمية مستغلاً أدواته وقدراته وعلمه وتعليمه، قد يقف متصنمًا عاجزًا أمام كتابة كلمة عابرة عن تأثير تناول القهوة السوداء الداكنة على المزاج وعلى جدران المعدة.. وأخيرًا وليس آخرا كل هؤلاء الكتاب الذين يأسرون ذائقتك وإعجابك، وتملأ كلماتهم أرفف المكتبات وأعمدة الجرائد.. كلهم عن بكرة أبيهم وأمهم وعشيرتهم الأقربين لا يعرفون كتابة خبر صحفي عن ترقية موظف بالمرتبة السادسة، أو خبر آخر عن حفل زواج جماعي سيقام في نهاية الشهر المقبل.. الكتابة الصحفية ربما تفتقد الإبداع في نظر قرائها، لكنها كتابة متخصصة ومحددة ونوعية، وهذا أظنه قمة وهامة وأعلى مراتب الإبداع..
لا تسمح لك الكتابة الصحفية بتجاوز الخطوط الحمراء والبيضاء والبنفسجية.. ولا تسمح لك بالتدخل العسكري ولا التدخل الجراحي ولا التدخل لفرض حالة الطوارئ.. لا تسمح لك باستخدام مصطلحاتك ومفرداتك ومخزونك اللغوي؛ فالكتابة الصحفية ليست رسالة رومانسية غرامية تبعثها إلى فتاة تحبها حبًّا جمًّا، وليست خطابًا جمهوريًّا يُلقى أمام حشد من اليساريين في ذكرى النكبة، وليست بيانًا عاجلاً من شركة أغذية تسعى لإقناع المساهمين بأن أرباحها تتضاعف باليوم والساعة والدقيقة..
أولئك الجالسون خلف مكاتبهم وأجهزتهم لكتابة خبر صحفي، يعرفون عز المعرفة أنهم أمام مهمة تستوجب عليهم الالتزام الكامل بقواعد وآليات واضحة وصريحة، تكبل أياديهم كالمحبوسين والمعتقلين الذين يخشى فرارهم من غياهب السجون... الصحفي كاتب لأن مهمته وصنعته ووظيفته الكتابة.. يكتب الأخبار والتقارير والعناوين والاستطلاعات والتحقيقات..
عندما يريد كتابة مقال ويتحرر من كل تلك الأغلال؛ فلن تعجزه الكتابة عن الشتاء أو الإنسان المنكوب، أما الأخوة الكتاب فليسوا صحفيين كما تختلط على الناس الأشباه والوجوه.. تتشابه عليهم الأشياء.. هذا يكفي!!