|


صالح الخليف
الشهادة التي ماتت
2018-02-24

أول صفحة تخرج من سباق "صراع البقاء" في معركة الصحافة، كانت أهم صفحة.. كانت صفحة عن صحيفة.. كانت وكانت لكنها ذهبت مع الريح.. راحت مشت وعيوني تتبعها.. راحت.. وفعلاً ما يروح إلا الطيب.. 



أعني صفحة القراء.. كل الذين لمسوا واستشعروا وتنبؤوا وفطنوا إلى موهبتهم في الكتابة والصياغة وصف الكلام المفهوم، جاؤوا زرافات ووحدانا إلى تلك الصفحة، حاملين الحلم والأمل والبحث عن المستقبل المجهول.. كانت صفحة القراء اختبار قياس وتذكرة مرور وتأشيرة عبور إلى تلك المناطق المأهولة بوجوه تملك الفكرة والوعي والثقافة والتنوير على الأقل في أعين الناس تلك الأيام.. مدرس التعبير في الابتدائي والمتوسطة يؤدي على نطاق ضيق شيئًا من مهمات الاكتشاف والاستكشاف.. في سن مبكرة تبزغ أضواء المهارة.. بالطبع ليس الأمر مرتبطًا بالكتابة فقط.. يولد الناس موهوبين، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.. 



الكاتب الذي لم يمر من صفحة القراء تبدو في سيرته الذاتية مكانًا خاليًا، يتمنى لو عادت الأيام واستطاع تعبئته وملأه على طريقة أصحابه وأسلافه والسائرين معه في ذات الموكب.. بفخر وخيلاء وكبرياء واعتزاز واختيال، يستعيد أعرق الكتاب والروائيين وكتاب السيناريست والقصة القصيرة حكاياتهم مع صفحة القراء وكيف كانوا يراسلونها وينتظرونها ويترقبونها، وقد تزينت بأسمائهم في تلك الأيام الخوالي..



لم يعد وجود الصفحة واستمرارها ذا جدوى أو معنى.. كان غيابها وموتها الإشارة الأولى التي رفعت فيها الصحافة الراية البيضاء.. بغيابها لم يعد سهلاً ويسيراً اكتشاف كاتب جديد يحمل الجينات إياها.. على سرير صغير داخل غرفة منزوية في بيت متواضع، يمكن أن يعبر مراهق عن موهبته وقدرته بواسطة شاشة جهازه الصغير، دون الحاجة إلى صفحة ومحرر وصحيفة.. يبدو الأمر أكثر سلاسة وسهولة.. الفارق فقط أنك مع جهازك ستفتقد لذة الأحلام المؤجلة وشهوة شهادة الآخرين الذين تظن ـ وظنك ليس إثمًا ـ بأنهم أساتذة لديهم إمكانيات خارقة لإفراز عديم الموهبة من الطيب..



لا ترى الصحف جدوى من استمرار صفحة القراء؛ كونها تعرف أن المزاج العام وطبيعة البشر وطبيعة الأشياء لم تعد هي ذاتها.. لم يعد هناك من يكتب مقالاً أو رأيًا أو قصة ويبحث عن جريدة تنشر ما يقول.. الفضاء مفتوح بلا أبواب.. وسرير الغرفة المنزوية بانتظاره.. أما الأحلام المؤجلة وشهادة المصارحة والنجاح في اختبار القياس؛ فهاتان يمكن الاستغناء عنهما طالما الصفحة الهامة والمهمة هي ذاتها لم تعد على قيد الحياة.