قبل 800 عام، قرر الرحالة ابن جبير الأندلسي الحج إلى الديار المقدسة؛ تكفيرًا عن شرب سبعة أقداح من النبيذ، تنفيذًا لرغبة أمير الموحدين في غرناطة حينها، ومع أن الأمير ابن عبد المؤمن ملأ له الأقداح الفارغة بالدنانير، إلا أن ابن جبير لم يعد إلى مجلس النبيذ المنتهي بالدنانير مرة أخرى!.. وخلال سفره من غرناطة إلى مكة، كان ابن جبير يدوّن ما يراه، بعيدًا عن أسلوب كتابة المعاجم في رحلات ياقوت الحموي وغيره، حتى أصبحت رحلة هذا الأندلسي رائدة أدب الرحلات، وأشبه بفيلم وثائقي قبل ظهور الكاميرا بنحو 600 عام.
وصل ابن جبير إلى جدة بعد رحلة طويلة، وكان يظن أن مصاعبه انتهت، غير أن ما دوّنه عن هذه البلدة في تلك الحقبة، يؤكد أن معاناته الحقيقية بدأت بمجرد وصوله لأداء الفريضة، ويصف ابن جبير الناس في جدة وضواحيها بقوله: "وهم من شظف العيش بحال يتصدع له الجماد إشفاقًا"، ثم يصف حال الحجاج والمعتمرين في طريقهم إلى مكة وما يواجهونه من استغلال وتعسف، فضلاً عن خطر السلب أو القتل بسبب انعدام الأمن: "يعتقدون في الحاج ما لا يعتقد في أهل الذمة، ينتهبون الحجاج انتهابًا، ويسببون لاستجلاب ما بأيديهم استجلابًا، والحاج لا يزال في غرامة معهم إلى أن ييسر الله له الرجوع إلى وطنه".
وكان ابن جبير على خلاف مع فقهاء الأندلس حين دعوا إلى إسقاط فريضة الحج حفاظًا على أرواح أهلهم الذين يتعرضون في كل عام إلى السلب والقتل في الديار المقدسة، غير أن ما واجهه هذا الرحالة من إذلال جعله يؤيد هذه الدعوة حفظًا للنفس وصيانة لحقها؛ وهو ما جعله أيضًا يتناسى أزمة الأقداح السبعة مع أمير غرناطة، ويدعو الله أن ييسر لجيش الموحدين بقيادة ابن عبد المؤمن طريقًا إلى الديار المقدسة لتطهيرها من المجرمين وإعادة الأمن إليها!.
بعد نحو عام غادر ابن جبير الديار المقدسة، لافتًا إلى أن الحال ربما أصبحت أسوأ كلما تأخرت معونة صلاح الدين الأيوبي لأمير مكة، وهي المعونة التي تم بموجبها إيقاف "مكس" الحاج مقابل حصول الأمير على ألفي أردب من القمح، وهو ما يعادل بحسب ابن جبير 800 قفيز إشبيلي!.
في تلك الحقبة لم يكلف أحد السلاطين نفسه عناء المجيء إلى الديار المقدسة لفرض الأمن فيها، أو تنظيم الحج على أرضها، حتى السلطان العثماني الذي أتى لاحقًا، اكتفى على مدى 600 عام، بسياسة صلاح الدين في تقديم معونة مشروطة لأمراء الحج وزعماء القبائل نظير تأمين سلامة الحجاج!. كان سلاطين الشرق والغرب يدركون أن الأمر يحتاج إلى مواجهة فوضى متجذرة بالمال والسلاح؛ ما يعني مزيدًا من الالتزامات المالية والعسكرية لفترة طويلة دون مردود يدعم بقاء التاج، ومع أن أغلب هؤلاء كانوا يحكمون إمبراطوريات غنية، إلا أن اهتمامهم بالديار المقدسة بقي محدودًا.
في القرن العشرين كان الملك عبد العزيز آل سعود، يحكم واحدًا من أكثر الأقاليم فقرًا في العالم، قبل أن يفكر في الدخول إلى مكة، ولو استشار الملك حينها خبيرًا اقتصاديًّا لنصحه بعدم إضافة أعباء مالية وعسكرية على دولته الناشئة؛ حفاظًا على بقائها.. بادر الملك الطموح إلى الديار المقدسة، وتمكن من فرض الأمن والاستقرار، قبل أن يتم اكتشاف النفط بعدها بسنوات، وتتحول مكة والمدينة وما بينهما من مناطق خطرة إلى أكثرها أمنًا وتطورًا، حتى أصبح الحاج مخدومًا منذ وصوله بالطرق السريعة والمطارات الدولية والقطارات الحديثة.
بعدما فرض الملك عبد العزيز الأمن في الأماكن المقدسة، للمرة الأولى منذ عهد الخلفاء الراشدين، ظهر أخيرًا من يريد المشاركة في تنظيم الحج، والمزايدة على أبناء السعودية في إكرام الحجاج وخدمتهم، ولو عاد ابن جبير الأندلسي إلى الحياة، لقال للمزايدين: "أين أنتم حين كدنا نسقط فريضة الحج من الخوف على أرواحنا.. ابتعدوا ولا تفسدوا أمن الحج مجددًا؛ لأنكم لا تساوون قفيزًا إشبيليًّا واحدًا".