للنَّصّ قراءات بعدد قُرّائه. حِمايةً لها، يحاوِل البعض إنقاذ هذه الحريّة من التّسيِّب!، لإمبرتو إيكو في هذا ما يصعب تقويسه، فانسون جوف يختصر: نعم، النّص يسمح بقراءات عديدة، لكنه لا يسمح بأيّة قراءة كما اتفق!، رولان بارت يدخل أيضًا، ويضع طبقه على مائدة الحماية والحِمْيَة: حتى تكون القراءة مشروعة فلا بدّ من توفّر معيار الانسجام الداخلي!. لا أحد يقدر على ردم الهوّة بين الدّلالة والاستعمال، كاترين كربرات تحاول فقط منع الفوضى: الحريّة في القراءة، ومهما جاز لها الذهاب بعيدًا ، ليس معناها إرخاء العِنان لنزوات الرغبة وللهذيان التّأويلي!.
ـ كل هذه الحِمَايات، وغيرها كثير لا يتّسع المجال لذكره، تحاول الدفاع عن نظام قِرائي يضمن سلامة النص، يضمن على الأقل عدم إهانته، نظام يرفض أن تكون الكتابة عَبْدَةً بحجّة أن القراءة حُرَّة!، لكن وبالرغم من نُبل هذه المحاولات، وجدّيّتها وأهمّيتها، ومن عافيتها أيضًا، إلّا أن أيًّا منها، وكلّها مجتمعة، وغيرها معها، فشلت وستظل تفشل في صناعة حاجز حقيقي، صلب وقاطع، يمكنه حماية نصّ جيّد من قارئ سيئ!..
ـ لرأفت الميهي فيلم اسمه: "قليل من الحب كثير من العنف"، آخر مرّة شاهدت فيها هذا الفيلم كانت قبل أكثر من عشرين سنة، بعدها اختفى، نسيَتْه المحطّات التلفزيونيّة، ولم أجد له في عوالم "النِّت" أثرًا، باستثناء مشهد واحد على اليوتيوب، يُعرض للتسلية، معزولًا عن نسيج العمل وعن طبيعته وعن قيمته!،..
ـ الفيلم مأخوذ عن رواية فتحي غانم، أحد أكثر من أنجبت مصر فخامة روائيّة، ورأفت الميهي مجنون، تشعر بأنّ في رأسه سِلْكًا كهربائيًّا عاريًا سقط عليه ماء فكانت النتيجة فيلمًا سينمائيًّا له!، وفي هذا الفيلم تحديدًا بَلَغَ ـ رحمه الله ـ مرحلة الهذيان، لكنه كان هذيانًا عبقريًّا، مع احتفاظي برأيي: رأفت الميهي سيناريست محترف، ومخرج عادي، لكنه مفكِّر فخم!.
ـ لماذا أحدّثكم عن هذا الفيلم؟!، لأنه أفضل فيلم تناول إشكاليّة القراءة، حيث تقع رواية ما في يد مجموعتين مختلفتين من الناس، والفانتازيا الجسورة في الفيلم، هي أن هذه الرواية هي الفيلم نفسه، لكن بقراءتين مختلفتين!، قراءة واهية "مسطولة"، وقراءة واعية "معقولة"!، يدمج الميهي القراءتين معًا، مشهد هنا، ومشهد أو مشهدان هناك!،..
ـ الشخصيات التي يؤديها كل من نجاح الموجي ويونس شلبي وممثل ثالث لا يحضرني اسمه الآن، هي ذاتها الشخصيات التي يمكن لها الظهور في مشاهد أخرى، لكن بممثلين آخرين: محمود حميدة وهشام سليم وهشام عبدالحميد!، الطرف الثابت شخصية البطلة ليلى علوي، فهي تظهر في القراءتين كما هي!، والنتيجة أننا نصبح أمام فيلمين في فيلم واحد، أحد الفيلمين فيلم مقاولات تافه وسطحي، والفيلم الآخر فيلم واقعي محترم ومشغول برهافة!،..
ـ فشل الفيلم جماهيريًّا، لصعوبة فهم ما أراد رأفت الميهي قوله، رغم بساطته وملاحته وجسارته: الكتب حكايات، ويمكن لأي قارئ جيّد أن يجعل من الكتاب حكاية جيّدة وعميقة وذات أثر، كما يمكن لأيّ قارئ سيئ أن يجعل من الكتاب حكاية مهلهلة ساذجة، وأن يسلبها كل قيمة!.
ـ يكتب مانغويل: كلّ قراءة هي صورة شخصيّة للقارئ، أكثر من كونها ترجمةً للعمل الأصلي، كما أنها ضربٌ من كشف الذات واستكشافها!.