الاستثناءات قليلة هنا، حتى إنه يمكن لي التخلّي عن قليل من الحذر؛ لأتخلّى عنها تمامًا، فأكتب: لا استثناءات هنا، جميعنا يمر بهذه الحالة، هي فقط تتكرر وتُعَاوِد زيارة ناس أكثر من غيرهم، أحكي عن حالة الشعور بالرغبة في الكتابة، في نثر الكلام على الورق، الحالة التي يشعر فيها كل واحد منّا، بأهميّة خاصة لحكايته، لموضوعه، لما يريد أن يبوح به، ليست الأهميّة فقط، بل الشعور أيضًا باستحقاق هذا الذي نريد قوله للبقاء، ولأن يَمُرّ على الناس، ولسوف يتواصلون معه ومن خلاله بإيجابيّة وإعجاب، ولسوف يكون مفيدًا لهم، ومؤثّرًا فيهم، يُرافِق كل هذا إحساس بأنّ ما سنكتبه، سيكشف للناس عن معدننا وحقيقتنا، وأنّ هذا في صالحنا وفي صالحهم!.
ـ تسبقُ الرغبة في الكتابة، الكتابةَ ذاتها، ويسبق الرغبة شعور خفي بالعَظَمَة، أحيانًا دون غطرسةٍ وأحيانًا معها!، وفي الحالتين هو شعور غير مؤذٍ بحدّ ذاته، ولا يَمَسّ كرامة الآخرين في شيء، وبما أننا سنتخلص منه بعد الكتابة، وبما أنه سبب الرغبة فيها، فإننا نتصالح معه فلا ندقّق في أوصافه كثيرًا، في الغالب: ولا قليلًا!، فهو شعور ممتع ويستحق التغاضي عن أسمائه وصفاته!.
ـ نمسك بالقلم، وننحني قليلًا لنبدأ الارتفاع!، وفجأة، يتلعثم الحبر، ونرتبك، لا نعرف من أين نبدأ، ولا كيف نقتنص الكلمة المشتهاة والمُرَادَة بعد الكلمة، نشطب، نعيد كتابة الجملة، نمزق الورقة، نبدأ من جديد، الفكرة التي كانت في رؤوسنا، كانت متماسكة أكثر بكثير مما هي عليه الآن وهي تهبط على الورقة!، نترك الورقة ونرمي بالقلم، لكن الفكرة لا تعود سهلة ومنسابة ومُسْتَرسِلَة وواضحة ومُحدَّدة كما كانت عليه حالها قبل قليل، تحديدًا قبل أن نُمسك بالقلم، وننحني قليلًا على الورقة!.
ـ في الغالب، يكون هذا العجز المُرهِق، بسبب نقص في أدوات الكتابة، وافتقار إلى مهارات العمل الكتابي، وهو شعور يصيب دائمًا كل من يريد الدخول في عالم الكتابة، لمجرّد أنه يحمل أفكارًا رائعة في رأسه، أو معلومات مهمّة، أو حكاية جميلة ومتماسكة في ذهنه، لكنه في المقابل أدوات الكتابة ولوازمها!.
ـ كثير من الناس، مرّ بهذه الحالة، أنْ يقرأ، أو يسمع شيئًا، ثم يحلف صادقًا، لصديق أو لنفسه، إنّ هذا ما كان يدور في خاطره وفي باله، ولا يدري هل تكاسل أم عجز عن كتابته، وفي كثير من الأحيان يهرب من انتصار الآخَر، فيؤكد لصديقه أو لنفسه، ربما دون حِلفانٍ هذه المرّة، أنه تكاسل ليس إلّا!.
ـ يحدث أيضًا، أن يسأل بعضنا نفسه مُعْجَبًا ومُتَعجِّبًا: كيف قدر فلان على كتابة ما كتب؟، كيف نجح في اقتناص الفكرة، وكيف أبدع في الاسترسال فيها، وكيف تمكن من الإحاطة بها بكل هذا القدر من الجمال، رغم أنها كانت بين يديّ وفي قلب ورأس السائل المُعجب المتعجّب، مع اعتراف مُتَصالحٍ مع الذات بعدم قدرته على فعل ما فعل غيره؟!،.
ـ الجواب في الغالب، أنّ هذا الآخَر، امتلك أدواته، وعرف لوازم الكتابة كحرفة، وأتقن مهاراتها بالموهبة والصقل والمِرَان والدّرْبَة، فأنجز ما أنجز!.
ـ ومن أسرار الكتابة، للماهر فيها، أن يترك للكلمات مجالًا للتعبير عمّا يمكنها التعبير عنه، وقتَ تشاء العبارة نفسها، بالقدْر الذي يُمسك فيه بزمام ما يريد قوله!.
ـ للكلمات دائمًا ما تريد قوله، خارجًا وبعيدًا عمّا قرر الكاتب تسخيرها له، وهو ما لم يكن "صَيْرَفِيًّا" ماهرًا، و"صائغًا" شديد الفطنة، فإنه يقع في إحدى الورطتين، إمّا أن يترك للكلمات حريّة الانطلاق، حدّ أن تنفلت من كل موضوع، فلا يعود هناك "إطار" للوحة، حيث تسيل الألوان فلا يمكن لعينٍ أو لفكرٍ لملمتها، والتأمّل فيها، وإمّا أن يتصرّف كموظّف حكومي، يُطبّق القوانين حسب الأوامر، واللوائح، فتكون النتيجة عملًا باهتًا، لا يشبه ما كان يدور في الرأس وينبض به القلب في شيء، وياما وياما فشلت محاولات كتابية؛ فقط لأن صاحبها لم يفهم الفرق بين العمل والمعاملة!، بين الإخلاص والتخليص!.
ـ ما نريد قوله يجب قوله، لكن دون مساس بمشاعر الكلمات نفسها حين تلتقي مع بعضها، فللكلمات ما تريد قوله أيضًا، وهذا الذي تريد قوله ينمو ويتجلّى شيئًا فشيئًا بعيدًا عن مقاصدنا الأولى، لا نكتشفه إلا لحظة الكتابة، لحظة عناق الكلمة بالكلمة، هذه الحرارة المخطوطة للتو، لها الحق في البوح، بل إنه وفي أغلب الأحيان، تكون هذه المفاجآت العاطفية التي تُنجزنا أثناء الكتابة، هي أطيب وأجمل ما يمكن لنا إنجازه في الكتابة!.