يوم كنت طالباً في (جلاسكو) الأسكتلندية تمكنت من زيارة بعض مدن أوربية مجاورة.. ذهبت إلى (باريس) الفرنسية وسافرت إلى (برشلونة) الإسبانية.. وكم كنت أتمنى أن أواصل رحلاتي لأكتشف بلداناً ومدناً أخرى في القارة العجوز، وأتعرف على طبائع شعوبها ولكنني عدت قبل أن أحقق تلك الأمنيات. اليوم أزور إيطاليا.. أحل بين أهلها الذي يشبهوننا في أنهم اجتماعيون.. عاطفيون.. تلقائيون.. أصحاب ردود أفعال سريعة.. تجعلهم عرضة للخطأ دون قصد.. تلك العاطفة المندفعة أفقدتهم ذلك (البرستيج) الذي يقدسه البريطانيون.. الإنجليز تحديداً. رحلتي إلى إيطاليا بدأت من (بيزا) جئت إليها قادماً من (الدمام) مروراً بـ (أمستردام) التي ترددت على مطارها ولم أشاهدها إلا من (الجو). ها هي (بيزا) المدينة الإيطالية الصغيرة.. وهاهو (برجها المائل) ما زال ثابتاً.. شامخاً وقد كنت فيما مضى أنظر إلى (مجسمه) الصغير وأخشى عليه من السقوط.. البرج المائل الذي لا يجهله أحد يبدو بالفعل مثيراً يلفت الأنظار.. وكذلك (الطليان) رغم تلك (الحال المائلة) التي يوصمون بها من إخوانهم (الأوروبيين) ما زالوا يلفتون الأنظار بعلومهم وفنونهم وطيبتهم.. حين ترى الإيطالي بأنفه الكبير تظنه (شايف نفسه) وعندما يتحدث إليك تتسع عيناه ولا تكاد ترى أنفه.. ترى هل هي (الغيرة) تجعلهم موضع النقد والاستهجان؟ نعم الإيطاليون يتمتعون بالطيبة ويقبلون على الآخرين بود.. أقول ذلك ولست بحاجة إلى تذكر ما فعله (موسوليني) ذلك الديكتاتور (الفاشي) الذي كان لا يحب الأجانب، ونادى بطردهم من إيطاليا.. تأتيني هنا.. تذكرني بها هذه الوجوه التي تشبهها.. إنها الدكتورة (بولا) صديقة المدام في جامعة جلاسكو.. تلك المرأة الإيطالية التي جاءت لدراسة الدكتوراة بعد أن أحيلت إلى التقاعد.. كان هدفها مواصلة البحث العلمي وإقامة صداقات مع كل الأجناس.. تتفاعل معهم وتقبل اختلافهم وتدافع بـ (حماسة) عن تلك القيم الجميلة التي تراها.. كما لا أنسى ذلك الشاب الإيطالي الذي وطأت قدمي على قدمه في الطائرة.. أيقظته من (سابع نومة).. ليفتح عينيه.. ويومئ لي صافحاً بود ويعود إلى النوم. هناك فارق كبير بين النرجسية والاعتداد.. ولا يمكن أن نميز بينهما دائماً بالشكل.. إنها صفات متأصلة.. متجذرة. حينما يتعامل الإنسان بـ (فوقية) يصبح (سلبياً) متصيداً للأخطاء.. يبحث عن النقطة السوداء بل وحتى (الرمادية) في ذلك الثوب الجميل (ناصع البياض).. أصحاب الأقنعة الملونة.. يريدون أن يكونوا دائماً (آخر تمام).. لا يقبلون (الميل).. هؤلاء لا يعرفون عن (برج بيزا) سوى أنه مائل.. إنهم لا يتساءلون عن تلك الأسرار التي يحملها وجعلت منه ومن بانوه (الطليان) مساراً.. ومزاراً.. اليوم فهمت لماذا يقولون: كل الطرق تؤدي إلى روما.. يبدو أن للمرونة والسلاسة والبساطة التي يتمتع بها الإيطاليون علاقة بذلك.. لعله اكتشاف جديد أخرج به عليكم.. ما زالت أنظر إلى (برج بيزا).. أشعر أنه أكثر إثارة من (ناطحات السحاب) التي تملأ العالم اليوم.. ليس لأن بناءه قد بدأ قبل ما يزيد عن سبعة قرون، واستغرق قرابة 174 عاماً.. بل لأنه بقي صامداً ولم يسقط وبات من (عجائب الدنيا السبع). برج بيزا.. هذا المبنى العجيب.. أجد فيه صورة الإيطالي بـ (ميله) للتعرف على الناس وإثارتهم بفنه واعتداده بقيمته.. لا تأتوا بـ (موسوليني) وتذكروا الدكتورة (بولا) وذلك الشاب الذي وطأت على قدمه في الطائرة.