|


سعد المهدي
هل بقي لهم مما عشناه؟
2012-11-12

تقول غادة السمان “إن شهية البقاء جعلتها تتعلم الطيران حين رمى بها حبيبها من طائرة حبه وهي تحلق فوق الجبال الوعرة، وحين قرر ربط أثقال في جسدها الهش وقرر وأدها في البحر تعلمت السباحة ورقصة أسماك القاع، وحين أطلق النار على رئتيها اكتشفت التنفس، ويوم شد وثاقها تعلمت المشي وحيدة في الأنهار، وحين غدر بها في عقر حبها صبرت ولحظة أطفأ الأنوار وختمها بالليل أبصرت وكتبت له أنا من فصيلة جديدة من النساء، فهل تحب أن نتعارف ونبدأ من جديد؟ وتطرح سعاد الصباح أسئلتها المعذبة للمسافر ليل نهار في كريات دمها، ماذا أفعل بثرائك العاطفي المزروع في دمي كأشجار الياسمين، ماذا أفعل بصوتك الذي ينقر كالديك وجه شراشفي، ماذا أفعل برائحتك التي تسبح كأسماك القرش في مياه ذاكرتي، ماذا أفعل ببصمات ذوقك على أثاث غرفتي وألوان ثيابي وتفاصيل حياتي، ماذا أفعل بفصيلة دمي، يا أيها المسافر ليلاً ونهاراً في كريات دمي. لكن شاعر الحب نزار قباني يطالب حبيبته بخمس دقائق أخرى للجلوس، ففي القلب شيء كثير وحزن كثير وليس من السهل قتل العواطف في لحظات وإلقاء الحب في سلة المهملات، فإن تراثاً من الحب والشعر والحزن والخبز والملح والتبغ والذكريات يحاصرهم من جميع الجهات، فليت أنها تفتكر قليلاً بما تفعله فإن القضية أكبر منها وأكبر منه كما تعلم وهو يشعر أن التشنج ليس علاجاً لما هما عليه، وأن الحمامة ليست طريق اليقين، وأن الشؤون الصغيرة بينه وبينها ليست تموت بتلك السهولة والمشاعر لا تتبدل مثل الثياب الجميلة، ويزيد بأنه لا يحاول بذلك تغيير رأيها، فالقرار قرارها طبعاً لكن يشعر الآن أن جذورها تمتد في القلب ذات الشمال وذات اليمين، فكيف يفك حصار العصافير والبحر والصيف والياسمين، وكيف يقص بثانيتين شريطاً تم غزله في عشرات السنين، حتى يقول أنت حبيبة قلبي على أي حال سأفرض أني تصرفت مثل جميع الرجال ببعض الخشونة، وبعض الغرور، فهل هذا يكفي لقطع جميع الجسور وإحراق كل الشجر؟ افتقدت كثيراً هذه اللغة المضمخة بالآه والوجد، وهذه النخيل من الحب والعشب من التوجس والحيرة، هذه القراءات المجنحة في فضاءات حيث لا أحد إلا أنت، يا ترى من تخلى عن من؟ هل نحن الذين ارتضينا لأنفسنا العيش في عشوائية الحرف ومكاب الكلام وهجرنا جنان اللغة وفردوس الإحساس، أم أن الزمن لم يعد ذاك الزمن الذي كان يفرض علينا أن نتأبط النجوم ونحتضن الزهر وننام على ظهر غيمة؟.. هل يا ترى بقي لغيرنا ما عشناه وعايشناه، هل بذات الطراوة والرائحة، وهل يطارحونه كما التوينا به وسادة حب، ورداء شوق، وحالة عشق؟.. ربما لكنني قررت ألا أموت إلا في حدائق ورياض عطر الكلم.