فكرة السيطرة على عقول الناس فكرة (شيطانية) لا يمكن لها أن تتحقق إلا في ظروف مناسبة تجعل من غير الممكن ممكناً، وذلك يرتبط إلى حد كبير بظروف ومناخات زمنية ومكانية هي من يفرض هذه الحالة ويحدد نسبة تحققها من ضعيف إلى متوسط أو الحصول عليها بدرجة امتياز.
طرفا المعادلة المرسل والمستقبل لكن لما بينهما أهمية قصوى في قوة وطغيان المرسل وتهيئة وتدجين المستقبل وهذه في العادة أمور متعددة وليست أمراً واحداً حيث يدخل التقارب الفكري أو العاطفي مع ما يروج له أو الحميمي الذي تفرزه الجغرافيا أو التاريخ أو كلاهما، كذلك الوسائل المستخدمة ومدى قدرة التعاطي معها أيضاً كثرتها أو تفردها وملاءمتها بما يضمن استقبالها بتسليم واستماع لما يشبه الأمر.
مع تعدد وسائل الإعلام ودخول وسائل التواصل الاجتماعي ألغى ذلك احتكار المعلومة أو السيطرة عليها كذلك أشاع ثقافة النقاش عبر منصات متعددة لعبث خدمات بيانات هواتف الجوال دوراً فيها فأصبح يمكن لجميع من يريد أن يبث أخباراً أو يعلق على أحداث أو يعبر عن رأي أن يمارس ذلك بسهولة ودون قيود، وهو ما يعني سقوط فكرة السيطرة على العقول وأصبحت الفكرة الشيطانية صبيانية وساذجة.
طبعاً هذا كله لا يعني أن العالم أصبح بخير وأن ملائكة الحقيقة والعقول الراجحة والنفوس الزكية الطاهرة قد حلوا بأرضنا وطردوا عنها شياطين تزوير الحقائق وتكميم الأفواه، والذين يتلذذون في إيذاء مشاعر الناس وجرح أحاسيسهم والكذب والافتراء بحقهم بل لم يحدث هذا مع الأسف وإنما تغير حال سيء إلى ما هو أسوأ تماماً كما يحدث مع ما أنتجه ما يسمى الربيع العربي الذي أبعد من يقال أنهم طغاة شباع وزرع بدلاً عنهم حفاة جياع بدأوا للتو مشروع أن يكونوا طغاة في المستقبل.
في الماضي القريب كان الناس ينقسمون حول الصحف والإذاعات دون أي إمكانية لفهم الآخر أو تصديقه نتيجة ما أشرنا إليه في المقدمة، بحيث كان لكل وسيلة جمهورها الذي لا يؤمن إلا بها فيما الطرف الآخر ينعتها بأقذع الأوصاف ويرى فيها شيطاناً بينما تغير الحال مع انتشار القنوات التلفزيونية الفضائية ثم شيوع خدمة الإنترنت وما أنتجه الطرفان من وسائل تواصل على شكل قنوات محملة بالبرامج ومواقع ومنتديات وصحف إلكترونية وخدمات تواصل اجتماعي، هذه الحالة يفترض فيها أن تفك الاشتباك بين كل الأطراف المتضادة أو المتوجسة من بعضها البعض، بحيث يصبح لكل فريق واتجاه وسيلته الخاصة التي يرضى عنها كذلك قدرته على المشاركة التي لا ينازعه عليها أحد، هذا يفترض لكنه لم يحدث حتى الآن.
إذا كانت الشكوى في وقت مضى أن هناك من احتكر هذه الصحيفة أو تلك القناة فقد انتهت هذه الحجة وفقدت معناها، وما يجب أن تهتم به كل وسيلة إعلامية عبر كل منصاتها هو كيف تعمل بمهنية وتجذب لها متلقين وعملاء، وكيف تحوز على ولائهم وحتى تحقق ذلك فلم يعد بذات أهمية كيف يصنفها البعض أو ينعتها ولا حتى يتظلم منها و يشكوها.. فإذا كان المتلقي وجد ضالته في تعدد وتنوع فرص التلقي والقدرة على التفاعل والمشاركة وأن ذلك غير نظرته وطبيعة تعاطيه مع وسائل الإعلام، فإن هذه الوسائل خاصة المعتبرة منها أيضاً لابد أنها ستكيّف أداءها بحسب المتغيرات، ولن تجلس على قارعة الطريق تنتظر شفقة قارئ أو مشاهد أو معلن وذلك بتغيير تقييم طريقة تعاطيها مع المادة الصحفية أو التلفزيونية، وتحديد (زبونها) المفترض بدقة ودون أن تقف في مفترق الرغبات، فتماماً كما يرى المتلقي أنه حسم أمره بمغادرة دائرة الاحتكار فإن على الوسائل أيضاً أن تسعى لتحديد عميلها والوصول إليه وإرضائه إذا لا يمكن أن تتحول لإرضاء الكل فهي ليست جمعيات خيرية.