دخل علي المكتب.. ألقى التحية، ثم وضع ملفاً كان بيده واستأذن للذهاب إلى (الحمّام).. وعندما عاد – صاحبي - أشار علي باهتمام بإجراء بعض الإصلاحات فيه. شكرته على اقتراحه الذي وجدته مهماً، وتحولنا للحديث عن أمور العمل الذي لا ينتهي.. كنت قبل أن يأتي صاحبي مسترسلاً في كتابة (قضية صحفية) في مجال التنمية الإدارية.. وككل من يبحث عن الحقيقة ليقدمها للناس كنت متحمساً جداً وأنا أحدثه عن بعض ما توصلت إليه.. لم يمهلني طويلاً.. قطع علي (حماسي).. وقال لي وهو يضحك: (أنا ماشي).. ولكن لاتنسى الاهتمام بـ(الحمّام). أفقت من حالة الاندماج وتلاشى الحماس.. ولم أملك نفسي.. أطلقت ضحكة كبيرة.. ودمعت عيناي.. لا أدري إن كانت الدموع قد عبرت عن أقصى مشاعر التلذذ الساخر بالموقف، أما أنها حملت حسرة على (حالنا المائلة)، ما أكثر القضايا التي يتناولها الإعلام ويستضيف للحديث فيها أصحاب الشأن من العلماء والأدباء والمتخصصين.. ما أكثر تلك الآراء الجميلة المدركة للمشكلات.. المحملة بالحلول المبدعة.. ما أوسع هذا الأفق المشبع بالمعرفة.. ولكن أين هو من هذه المشكلات التي مازلنا نعاني منها في كل مجالات التنمية؟ كلفت قبل عامين بإلقاء محاضرة لكبار الموظفين في إحدى الجهات الحكومية الكبيرة.. وحين التقيت بالمسؤول عن الإعداد والتنسيق للمحاضرة قال لي: نريد محاضرة تتلمس الاحتياجات وتعالج المشكلات.. لانريد (ترفاً فكرياً)..أعجبني مصطلحه الأخير، واهتز رأسي كالعادة كلما راق له الكلام.. وقلت بكل تقدير واحترام: تمام.. هذا ما يروق لي.. يصنع القبول لي ولما أقول. وذهبت أجمع الاحتياجات من الجمهور.. واتضحت لي المشكلات، وأخذت أبحث عن أفضل الحلول.. ثم جئت أحملها لهم.. وفوجئت بأن القوم قد جاؤوا لتحقيق أهدافهم الخاصة ولم يأتوا لتطوير العمل.. شعرت أنني كمن يبيع (الخيار) في سوق (الكافيار).. التفكير في (الفحولة) لا يبقي للمعرفة مكاناً في (المخ).. القضية يا صاحبي المسؤول ليست في الفكر وعمقه أو بساطته.. القضية يا صاحبي في (الاستعداد).. الرغبة في التنفيذ.. وهذه تحتاج إلى إصلاحات في مجال تنمية الموارد البشرية تبدأ قبل (المرحلة الابتدائية).. تأهيل متكامل لإنسان يقدر المسؤولية ويؤمن بالمحاسبة ويدرك قيمة العمل وعلاقته بتحقيق الأهداف.. والمسألة في نظري بسيطة متى ما استشعرنا الفائدة والضرر.. إنها في نظري لاتختلف عن مشكلة (الحمّام).. التي أدرك صاحبي أثرها فراح يذكرني بإصرار للاهتمام بها.. نعم، كل شيء سيكون سهلاً متى ما تجاوزنا مرحلة التنظير وتحولنا إلى وضع متطلبات التنفيذ بصورة آلية لاتسمح بالارتجال وفردية القرار.