|


فهد عافت
حِيلَة واحدة لا تكفي
2016-10-17
ما الذي يحمي المنافسات الرياضية من أن تكون عِلماً: الحِيلَة!،
هذه هي صِلَة الرَّحِم بين الرياضة والفن!،
العِلْم يحتال في المختبرات، في التجارب، في محاولات الوجود الأولى، لكنه حين يظهر، حين يصير حقيقةً وواقعاً، لا يحتال، مجرّد معادلات حاسمة، ما عدا ذلك شعوذة ودجل، الفن يفعل العكس، والرياضة كذلك، كل منهما يتصرف في التدريبات وفقاً لمعادلات حاسمة، ونظريات محددة حتى وإن لم تكن ثابتة، وما عدا ذلك مراهقة خائبة، لكن حين يظهر أي من الفن والرياضة للعلن، للحظة الاختبار الحاسمة، لوقت الإنجاز المُنتظِر، فإنه لا يعيش ولا ينمو بغير مجموعة بارعة من الحِيَل: المَجاز ليس كل حِيَل الأدب، مثلما أن المراوغة ليست كل حِيَل لاعب كرة القدم!،
يفتننا الرياضي أكثر من لاعب السيرك، ونحترم العالِم ونمنحه تقديراً يفوق تقديرنا للاعب السيرك، والسؤال لماذا؟!،
العالِم لا يخدع أحداً، وكلما أمعن في علمه ابتعد عن الغرور، واكتسبت شخصيته أخلاقاً رفيعة، ثم إن فائدته تمس حياتنا بشكل مباشر وعملي، لذلك هو دائماً محل تقدير، لكن لماذا يُبهرنا الرياضي أكثر من لاعب السيرك؟!، أظن لأن لاعب السيرك ماهر لكنه لا يُبدي ذكاء يتكشف لنا مباشرة، إنه تدرب على ما يفعل إلى أن أتقنه، وهو أمامنا يكرر لكنه لا يبتكر!، الرياضي يبتكر في لحظة ما، فوق ما تدرب عليه، أو يستخدم فطنته في اختيار الجزء المناسب تماماً مما تدرب عليه في اللحظة الضرورية لوجوده، وفي الغالب يضيف أو يحذف شيئاً لأن الأمور لا تجري على هواه أو على مقاييسه وقت التدريب، أتحدث هنا بشكل خاص عن الرياضي الذي يشترك في منافسات مباشرة مع منافسين آخرين، بمعنى أنني أُحيّد قليلاً، ولا أقول أستثني، لاعبي الجمباز مثلاً، أو أي رياضة لا يكون فيها المنافس حاضراً ومهمته إبطال حيلة منافسه!،..
والشاعر يفعل الأمر نفسه وكذلك الرسام وكل فنان، كل واحد منهم أثناء اشتغاله على مُنجزه يواجه أدواته كخصوم مباشرين، الشاعر، مثلاً، يواجه لغته وإيقاعه، لنأخذ المتنبي مثالاً، تُرى كم حِيلة في بيته الشهير: "يقولون لي ما أنت في كل بلدةٍ؟!.. وما تبتغي؟!، ما أبتغي جلّ أن يُسْمى"؟!، يمكنني قراءة أربع حِيَلٍ على الأقل، أربع مراوغات فاتنة ومتتابعة: في السِّياق النحوي الطبيعي للكلام، كان يُفترض أن يقول: "من أنت؟" وليس "ما أنت؟"، حيث "من" للعاقل، وحيث "ما" لغير العاقل، لكن كم كان البيت سيخسر كثيراً من تدفقه وزخم الحزن والانكسار فيه لو أن المتنبّي استسلم لسيبويه؟!، اختيار "ما" واستبعاد "من" هنا، كشفت عن حجم استصغار السائلين واستهانتهم، واحتقارهم لإنسانيّة الشاعر برداءة خُلُقٍ منفِّرَة، مثلما كشفت عن عظيم حُرْقة الشاعر، لو كانت الصياغة: "من أنت" لفُرِّغ البيت من كل هذه الطاقة، وتحوّل السؤال إلى حوار صحفي!، ولصار قوله: "ما أبتغي جَلَّ أن يُسْمى" هروباً من إجابة مُنتظرة وليس هروباً من إهانة غير مُتقبَّلة!،
الحيلة الثانية، قوله "في كل بلدةٍ"، حرف جر وكلمتين، ويتدفق المعنى: المسألة شبه أبدية وفي كل مكان، لا هروب منها إلا إليها، وعلى المبدع التعامل مع استهانة الناس به طول الطريق، وفي الختام فقط أو فيما بعد الختام بزمن طويل، سيتم تبجيل المبدع وكل عصر المبدع واحترام أهله وتجاهل قسوتهم، أو اعتبارها عنصراً مُحفِّزاً، لولاه ما تقدم المبدع نحو إنجازه الخلّاق!،
هل هناك حِيَل أخرى في هذا البيت؟، ثالثة ورابعة، الثالثة في "يقولون"، لو كانت "يقول" لصارت الإهانة شخصية، عَدَاء فردي، خصومة عابرة، لكنهم "يقولون"، الجمع هنا يؤكد المَرارة، والإحساس بفقدان الشاعر لقيمته في مجتمعه، الحِيلَة الرابعة في تجاهله التام لأحد السؤالين، في البيت سؤالين: "ما أنت"؟!، و"ما تبتغي"؟!، و في البيت جواب مُقتضَب عن السؤال الثاني فقط: "ما أبتغي جَلَّ أن يُسْمَى"، هجْر السؤال الأول، إهماله، مَحْوِهِ، حضور غيابه!، إنه يرد الاستهانة بإهانة!، أظن أن روح المتنبي رفرفت حول مارادونا، وزين الدين زيدان كثيراً!.