|


إبراهيم بكري
الوطن جنتك والغربة نارك
2019-01-16
عن أبي العباس محمد بن إسحاق السراج قال:
"أقام أخي إسماعيل في بغداد خمسين سنة، فلما توفي ورفعت جنازته سمعت رجلاً على باب الدرب يقول لآخر: من هذا الميت قال: غريب كان هاهنا، فقلت: إنا لله بعد طول مقام أخي بها، واشتهاره بالعلم والتجارة يقال غريب كان هاهنا، فحملتني هذه الكلمة على الانصراف إلى الوطن".
أبي العباس الشيخ الجليل سكن بغداد مدة طويلة، كان مرجعاً في رواية الحديث، عاد إلى موطنه مدينة نيسابور في مقاطعة خراسان لأنه أدرك أنك عندما تعيش خارج وطنك ستبقى غريباً مهما كانت قيمتك وعلو شأنك، وظل في وطنه خراسان حتى فارق الحياة في عام 313هـ.
لا يعرف معاناة الغربة إلا من عاشها وتذوق قسوتها على أنغام الشوق لتراب وطنه.
كم من قريب فارق الحياة وأنت في غربتك لا أحد يواسيك، وكم من فرح سكن قلوب أهلك وأنت لا تشاركهم السعادة، وكم من عيد في أجواء أسرية وأنت تتأمل جدار غرفتك لا أحد يطرق بابك.
وكم من ألم عندما تسمع صوت أمك وهي تقول لك خلاص طولت ارجع قبل أن أموت، حتى هذه الحروف أكتبها وأنا أتجرع المعاناة أبي على سرير المرض في المستشفى يتألم ويصرخ وكأن صوته سكين يقطع جسدي.
لا يمكن أن تكون الغربة إنساناً له قلب ومشاعر، هي قاسية لا تشعر بنا وكأنها تتلذذ بتعذيبك لتسرق منك كل أحساسيك.
مع كل هذه المعاناة هناك أشياء إيجابية تتعلمها في تجربة حياة جديدة تزداد قيمتها عندما تعود إلى وطنك وليس بالهروب منه.

لا يبقى إلا أن أقول:
أشعر بالحزن مع كل قصة هروب من الوطن للعيش في الغربة.
مساكين هؤلاء قد تغريهم الغربة في بدايتها، لكن لا مفر سيأتي ذلك اليوم وأنت تشتاق لرائحة أمك وحضن أبيك، وتشتاق لكل شيء في وطنك من صرختك الأولى في الطفولة إلى يوم هروبك للمجهول.
وأنا أعيش في الغربة بدعم سخي من وطني "مال، تأمين صحي، مصاريف دراسية، وتذاكر سفر" ومع كل هذا أتجرع المعاناة لأن الغربة قاسية، وكيف ستكون حياة شخص هارب إلى الغربة في دولة لم تهتم بشعبها، البعض يفترشون الشوارع دون مأوى، وأنت أيها الهارب لأنهم يكرهون وطنك سوف يدعمونك في البداية وسيأتي اليوم الذي تجد نفسك لا أحد حولك حينها تكتشف أن الغربة نارك بعد أن كان وطنك جنتك.
هنا يتوقف نبض قلمي وألقاك بصـحيفتنا "الرياضية".