|


سعد الدوسري
أمي: ألِفي، موضي، ويائي
2020-02-02
أكثر مَنْ يفرحُ بكلماتي، هي "موضي". تلك الأميّةُ التي أهداني اللهُ، يومَ مولدي، كتابَها. هي التي تحسستْ بفخرٍ شديد، ورقَ الجريدة التي حملتْ جنينَ مقالاتي. وبفخر أكبر، وضعتْ النسخةَ الأولى من كتابي الأول، في صدر مجلسها. حين أكتب، أشعر أنها تعدّل الورقةَ، لكي تستقيمَ حروفي، وحين يستعصي الماضي عليَّ، تذكّرني وتذكُرني. لم أكتبْ قط، خارجَ أقواسها. كانت ألِفي، موضي، ويائي. ضوءُها حبرٌ لا ينفد، يحيلُ العادي إلى معجزة، والهمسةَ إلى صراخ. لم تكنْ تحتمل صراخ قلمي، تضعه كلّ ليلة تحت وسادتها لكي يهدأ، وبعد أن تغفو يبدأ يقطفُ رحيقَ أحلامها.
هي باختصار، أطولُ رحلةٍ للجَمال. تصمتُ بعد قُبلة الصباح، في انتظار قِبلة المساء. ليس بين القُبلة والقِبلة، سوى ساعات طوال من الابتسامات التي تستظلُّ بها قوافلُ الذين يعبرون خيمتها. عاريةً من الأم والأب والزوج الذين رحلوا باكراً، تقفُ لتسترَ الأيتام والأرامل، ولتهديهم أمومتَها وأبوّتها وعشقَها، بهدوءٍ لا مثيلَ لضجيجه. كلُ من عرَفها يعرف عرافتَها. دون أن تقولَ شيئاً، يكونُ ما تقوله صحيحاً. أحاول أن أهدئَها بأنَّ الأمورَ تسيرُ إلى السلم، فتومئ بعينيها أنها إلى الحرب. وما هي إلا أيام أو أسابيع أو أشهر، حتى تشتبك الأطرافُ وتتصاعد روائحُ البارود وتنتشر جثثُ القتلى. كيف لها أن تتنبأ بما سيحدثُ في كل أجزاء نشرات الأخبار التلفزيونية التي لا تغادرها إلا لتعود إليها، كيف؟!
في غزوات مرضها الذي طال إلى أنْ أنَّ جسدي الذي يلاصقُ جسدَها، كانت لا تجيدُ معاهدات السلام. حاربتْ بكل ضراوة. وبعد كل انتصار، كان المرضُ يخذلها مرةً أخرى، فتعود لتنتصر. لم أعش معها سوى انتصاراتها، حتى حين انهزمتْ أخيراً، لم تكن تشعر بشيء. غادرتْ منتصرة. ابتسمتْ لمن كانوا ينتظرون ابتساماتها بفارغ الفقد، لأبنائها وبناتها، ثم تحسستْ وجهي، كما كانت تتحسسُ طفولة كلماتي، بعد ذلك نامتْ. ظللتُ أحرسُ نومَها طويلاً، وأنا أدركُ أنها تحلمُ أطولَ أحلامها، ذلك الذي لن ينتهي أبداً، ولن تحكيه مطلقاً. أنا مَنْ سيحكيه، كما حكيته في كل القصص التي رويتها، حيث كانتْ هي شخصيتي وشخصي، حيث لم أكن أشعر بأنني أكررها، بل أستجدُّ بها، فكنوزها مترعة بالأنقياء وخزائنها ملأى بالقرى الفقيرة الشامخة.
بعد رحيل المعزين، فتحتُ صندوقَها الصغير، فوجدتني أتمددُ إلى جانبها، انصتُ بكل خشوع لها.