|


فهد عافت
الفن جمال.. النقد عدل!
2020-02-04
قَلْبُ الحقائق مُضِرّ. والأكثر ضررًا، في النقد، هو خطف أي معلومة سائبة، والبناء عليها!.
- إلى حدّ ما، يُمكن خطف، أو حتى اختلاق، معلومة غير موثوق بها، والتعامل معها، أو من خلالها، في عمل فني. لكن هذا محرّم على النّقد!. لأن مهمّة الفن الأولى هي الجمال، بينما مهمّة النقد الأولى هي العدل!، مع وجود مهمّات أخرى للنقد لا يمكن من حيث الأهمية ترقيمها بغير الرقم واحد أيضًا!.
- النقد مرتبط بالعِلْم، ارتباطًا لا يمكن العبث به، بينما يُمكن للأعمال الأدبية والفنيّة أن تسرح وإنْ وجَبَ الحذر!، طالما أنها تتمسّك بقوانين صنعتها!.
- يحق لشاعر مثل “بندر بن سرور” مثلًا، النظر بمنظور خاطئ علميًّا للجغرافيا، واعتبار أن الماء لا يشكل أكثر من ثلث سطح الأرض: “الله خلق بالكون ثلثين برّي.. يكفنّ عن ثلث البحر ويش ابي به”!.
- وعلى النقد هنا ممارسة دوره، ليس بموافقة الشاعر على ذلك، لكن، وهذا هو الأهم، ليس بمحاسبته وكأنه مسؤول عن تعليم الناس الجغرافيا!.
- خطوة الألف ميل النقدية يُمكنها البدء من هنا: ندرة الماء بالنسبة للبدوي مسألة قدريّة، وقانون حياة، وعلى أساسها بُنِيَتْ معتقدات وأعراف، وبسببها أقيمت حروب!.
- من غير المعقول وغير الطبيعي إذن خروج شاعر من هذه البيئة ويمكن لعينيه رؤية، أو تصديق، أن المياه تكاد تغطي الأرض، التي هي بالنسبة للبدوي “الكون” أو أساسه ومرتكزه: “الله خلق بالكون.!”.
- يوسف زيدان يخطف، بعَبَط فاضح، يُعميه الغرور عن التريّث، معلومة تَرِدْ في رواية لدان براون، تقول إن سر شهرة الموناليزا، ليس إلا خدعة من دافنشي نفسه، فهو الذي مهّد لها إعلانيًا، باحتفاظه بها وحمله إياها إلى كل مكان يذهب إليه، ممّا جعل منها لوحة شهيرة، ومن هذه الشهرة الفارغة أخذتْ مجدها!.
- طبعًا، هو لا يذكر أن مرجعه في معلومته تلك إنما هو سطر في عمل روائي، ولمن؟ لدان براون: روائي مشوّق لكنه هشّ، ورواياته تجارية بحتة، ولو أنك صففته مع أي روائي محترم، لهرب ذلك الروائي من الصف وتركه وحيدًا!. هذا رأيي في دان براون والذي أؤكد أنه يمتلك من فن الرواية أحد أعظم أسرارها: التشويق!.
- أحد أفضل، وأعمق، من قرأوا دافنشي، في نظري، هو سيجموند فرويد، وله في ذلك كتاب صغير، مدوّي الأثر!. صحيح أن فرويد حاول تطبيق نظريّاته على أعمال دافنشي، وهو أمر ليس بالسّيئ أبدًا، فلولا تلاميذ فرويد الذين اعتمدوا نظريّاته وتنظيراته لما قُرِأ كافكا إلى اليوم، بغير رعونة هوجاء!.
- في كتابه المعنون “دافنشي: دراسة تحليلية لذكريات طفل”، يطرح فرويد المعلومة ذاتها، التي طرحها زيدان، لكن في مضمار مختلف وبحث آخر، بحث حقيقي وجاد!. تاركًا الخطف الأحمق لزيدان وأمثاله!.
- نعم، احتفظ دافنشي بلوحته زمنًا، لا أدري كم هو!، ولم يقم بتسليمها للرجل الذي أمره برسمها، بل اصطحبها معه إلى فرنسا، حيث طلبها فرانسيس الأول، الرجل المدعوم بقوّة من متحف اللوفر!.
- لكن الحقيقة، الأقرب إلى المنطق النقدي، العادل والأخلاقي، تقول بعكس تفسيرات يوسف زيدان للمعلومة المخطوفة خطف جهالة وانتفاخ!.
- يعيد فرويد فك وتركيب المعلومة، بناءً على تتبّع تاريخي مغزول بفطنة التحليل النفسي، فنكتشف أن دافنشي، أبدًا، لم يقصد بهرجة دعائية مجّانيّة وتافهة للوحته كما يزعم يوسف زيدان، وإنما احتفظ بتلك اللوحة وتأبّطها في كل مكان ذهب إليه لسبب آخر تمامًا، عميق وأصيل فنيًّا:.. إنها لمْ تُرْضِ دافنشي نفسه!.
- ظل طيلة احتفاظه بها يعتبرها عملًا فنيًّا غير مُكتمِل!. ولذلك رفض تسليمها لمن أمره برسمها!.
- وفي الكتاب، يُكدّس فرويد، آراءً نقدية وفنيّة ونفسيّة معتبرة لأسماء مرموقة، تبحث في جماليات هذا العمل الخالد، وتكشف عن أعاجيب خلّابة بهيجة!.
- بالمناسبة: فرق كبير بين أن يعتبر المبدع عمله ضعيفًا أو عاديًّا، وبين أن يعتبره غير مكتمل!.
- عادةً، لا يعتبر المبدع عمله غير مكتملًا، إلّا حين يشعر حقيقة، ويحس بصدق، من اقتراب هذا العمل للكمال، إلى الحد الذي يُرعِب الفنان المبدع مِن، وعن، التوقّف عن لمسة أخيرة يمكنها أن تحقق المستحيل: الكمال الكلّي!.