|


أحمد الحامد⁩
حكمة الاكتفاء
2020-03-15
الاكتفاء حكمة، فكلما اكتفى الإنسان، عرف قيمة ما لديه، وكلما عرف الوقت المناسب للاكتفاء، علم أن الحياة للحياة وليست للجمع. يتسلل المخادعون من خلال كائن الطمع، الذي يقبع داخل الإنسان، يحرِّكونه بالمغريات، ويصوِّرون للضحية أن كل ما هو كثيرٌ وثمينٌ، هو ما لا يملكه.
هكذا استطاع الإسكتلندي جريجور ماكريجور في عام 1821 تحريك ذاك الجانب في بعض السكان الذين كانوا يعيشون في هدوء وأمان، ويمتلكون منازلهم، ويعملون في أعمال خاصة بهم، ولديهم أموالهم. قال لهم: إن الحياة هنا مجرد سنوات ضائعة، فالطقس الممطر دائمًا، والغيوم الرمادية، يبعثان على الكآبة، كما أن هذه المنازل التي تعيشون فيها ما هي إلا علب صغيرة، ثم إن ما يجنيه الإنسان هنا مجرد فتات. وكشف جريجور عن بلد جديد في أمريكا الوسطى، طقسه مشمس، وشتاؤه دافئ، والأراضي فيه شاسعة مليئة بالمعادن، ويستطيع المرء بناء منزله الكبير، واستخراج كنوز المعادن في الأراضي التي يستطيعون شراءها وامتلاكها. كان يصمِّم لهم حلمًا مناسبًا لخطته، ورسم خريطةً، وكتب على جزء منها دولة “بوباييز”، وأعلن عبر الصحف بيع سندات من حكومة الدولة الجديدة بقيمة 200 ألف جنيه، وطبع الأوراق التي توثق عمليات البيع، وحدَّد موعدًا لهجرة المستثمرين بعد أن حصل على أموالهم. غادرت الباخرة محمَّلة بخيالات الطامعين الجدد، لكنها غادرت دون جريجور الذي راح يستمتع بأموال السكان الذين لم يجدوا دولةً بهذا الاسم، فضاعوا في الجزء البعيد من هذا العالم، ومات الكثير منهم من الجوع والمرض. لقد كانوا جميعًا وقبل شهور قليلة شهور فقط قبل جريجور، في حالة اكتفاء، لكنهم لم يكتفوا.
نحن عادةً ما نتأثر عندما نقرأ مقولةً، اعتقدنا أنها صحيحة، لأنها وصفت الحالة وصفًا دقيقًا، لكنَّ التأثر يصبح بلا قيمة إذا لم يكن له تأثيرٌ، يكفينا ارتكاب الأخطاء التي أوصتنا المقولة بألَّا نرتكبها. المخادعون يشبهون كثيرًا أصحاب صالات القمار، ولا أظن أن هناك مَن أدخل اللاعبين إليها سوى الطمع عندما أوهمهم أصحاب صالات القمار بأن الأموال في الصالة وليست في جيوبهم. الصداقة مع الاكتفاء تعطي الإنسان مساحة أوسع من الحرية، لكنَّ الاكتفاء أيضًا، يصادق مَن لديهم الإيمان بما يفعلونه، والقوة الكافية لاتخاذ قرار الاكتفاء. يقول مصطفى محمود: “إنك لن تدرك مدى خوفك، ولا مدى شجاعتك إلا إذا واجهت خطرًا حقيقيًّا، ولن تدرك مدى خيرك ومدى شرك إلا إذا واجهت إغراءً حقيقيًّا”.