|


تركي السهلي
غرابة النصر
2020-12-29
وكأن هذا الأصفر المولود من رحم العاصمة القويّة للعرب لا يُعبّر عن مناخها ويذهب بنفسه إلى جلدٍ مسحت عليه الينابيع طراوةً ورِقّةً، واستحال أن يكون جافًّا تترك الشمس على سحناته سُمرة النهار.
لا يقف النصر حائرًا إلا حينما تضربه تيارات الداخل ولا يُصيبه الدوار إلاّ وقت ما يعتلي الموج مُحيطه ويُغطّي رؤيته للأشياء. بارعٌ جدًا في المنازلة وهزيل جدًا في قياس الأمور العائدة إليه. كأنه لا يعرف إلاّ أن يقبض على المقود ويسرع نحو المصير دونما حساب للجغرافيا وفي ظنّه أن التاريخ خارطته ورحلة اهتدائه الدائمة. يتعمّد الأصفر كثيرًا في ترك الحجر في مصبّ الينبوع ويتلذّذ في كون الماء من عوامل التعرية.
تمرُّ على الآخذ من صُفرة الرمال أيامٌ سوداء ويختلط لديه الاتجاه فيقف كنبتة صحراوية لا حياة لها إلا من غيمة محُمّلة بالغيث تتراقص حينما يهطل المطر وتُصبِح زهرة برّية لديها جذور في الطين وتتصافح مع الضوء والريح والتراب المُبلّل وأغنيات الليل. يموتُ النصر ساعة يقترب منه حانوتي في ثوب بستاني وتصعب عليه الحياة لحظة سماع أصوات الطبول تقترب منه. مشكلة النصر الكُبرى أنه جميلٌ محاطٌ بالقُبح.
لا تفسير أبدًا لكُلِّ تصرفاته وهو المتوقّع منه كل شيء. لا قيمة للأهازيج بدونه ولا معنى للسجّاد من دون مروره عليه. لا ثبات منه ولا معه ولا تحرير للأماكن إن هو احتل مكانته. لا زُرقة ولا حُمرة ولا اخضرار إن هو طغى في الظهور. يفقد ما لديه ويُصبح مُعدمًا حينما تتشابك مع يده أيادٍ ويغدو مثل كفيفٍ لا يتبع نداء البصيرة. اعتاد أن يقطع مسافاته بمفرده ولا يُحب أن يؤشر له أحد بأن يعبر. يُفضّل المرور على البقاء حينما تتعدّد الطرق ويرمي ببوصلته بعيدًا عن أعين المارّة. يتوه مرّات عديدة وفي كُلِّ مرّة لا يرغب في حفظ العلامات الدّالة ولا يكون في قلبه سوى النظر بعيدًا، علّ وميضًا يلمع له فيبتسم كما يفعل الأطفال لقوسِ قُزح. مليء بالنقيض النصر.. ولا تحديد لحساباته.. يفتح معابره للدراويش ويحكم السادة، يُطعم السناجب ويُرافق الذئاب، يقصد مناطق البخور ولا يُشعل النار لإحراقه، ينوي الرحيل ثم يُقرّر العودة. حينما يوشك على النهاية يعاود البدء. وحينما يصل إلى مُبتغاه يقف على نقطة صفر. الغرابة كُل الغرابة هذا الأصفر.. المزيج المُحيّر والوضوح التّام.. العين الثاقبة والأذن الطرشاء.. الأخرس وقت الضجيج والصادح حين السكوت. ومع هذا.. يحيا النصر.