|


أحمد الحامد⁩
حتى تضاءل
2021-08-18
يحتاج البشر إلى بعضهم كحاجة ملّحة، ليس لأن الإنسان لا يستطيع أن يعيش وحيداً فقط، بل لأن مصالحنا تلتقي فنتبادل المنافع وتسهل حياتنا، لا يمكن لنا أن نكون أقوياء دون أن نتبادل علومنا وصناعاتنا وفنوننا، ولو قرر المرء أن يستغني عن كل ما اكتشفه وصنعه غيره لفقد معظم مقومات حياته ابتداءً بالكهرباء اللي أنارت ظلامه وأوصلت إليه الماء، وصولاً إلى ملابسه التي يلبسها.
في اللغة تعود أصول الكثير من الكلمات التي تستخدمها الشعوب إلى مناطق مختلفة وبعيدة، قرأت أن أصل اللغات الأوروبية يعود إلى سكان الهلال الخصيب الذين طوروا الزراعة فتطور الإنسان، أي أن لغات العالم مزيج من لغات، حتى السيارة التي نقودها هي عبارة عن مجموعة صناعات من بلدان مختلفة تجمعت وأصبحت سيارة، وأنا الآن أكتب في الآيباد ذي التطبيقات الأمريكية المصنوع في مصانع صينية، وأشرب القهوة المزروعة في أثيوبيا والمعّدة في ماكينة إيطالية، وألبس قميصاً من قطن مصري مصنوع في إندونيسيا، وأجلس على كرسي مصنوع في الهند، وأمامي طاولة صنعت في إسبانيا، عليها كتاب مطبوع في السعودية.
في الأسبوع الماضي كنت على موعد مع رجل عربي من أجل عمل ما، كان الموعد في مقهى إنجليزي عريق لا يبعد كثيراً عن دار سوذبي الشهيرة المتخصصة بالمزادات لكل ما هو فريد من فنون عالمية، كان الرجل الذي التقيته في الخمسين من عمره، طاف العالم ونجح في عمله، وكنت معجباً بمهاراته المهنية، تحدث بأسلوب شيّق عن بداياته الصغيرة، وكيف أنه واجه الصعوبات منذ بداية حياته وتحمل ثمن أخطائه وتجاوزها، وكيف أنه سافر إلى دول كثيرة لكي يصنع منتجاته، كان صاحب تجربة ثرية وذو خبرة محترمة في مجاله، كل ما قاله كان طبيعياً إلى أن قال بأن ما حققه عائد لكونه من الجنسية العربية التي ذكرها، وأن انتماءه لهذه الجنسية يشكل إضافة فارقة بينه وبين الآخرين، ومع أنه لا يحب التفاخر حسب قوله إلا أنه يوضح ذلك مضطراً إذا ما وقع خلاف بينه وبين شركائه الأجانب.
لم يعد الرجل الذي كنت أستمع إليه هو نفسه قبل أن يقول ما قاله، شعرت بأن كل تجربته ونجاحاته لا قيمة لها، وأنني يجب أن أغادر المقهى فوراً، صرت محبطاً ولا قدرة لي على البقاء معه أكثر من ذلك، صار يتحدث ويلقي بالكلمات دون أن أدركها، أتذكر أنه قال شيئاً عن اللقاح الإنجليزي الذي تطعم به، ولمحت علامة بدلته الإيطالية، وعندما وقفنا لمغادرة المقهى وضع هاتفه الكوري في جيبه، وسحق عقب سيجارته الأمريكية بحذائه الإيطالي، نظر إلى ساعته السويسرية، وركب سيارته الألمانية وانطلق في الشارع حتى تضاءل.