|


أحمد الحامد⁩
ماشي...
2021-09-26
أبو محمد لا يحب النقاشات الطويلة، يحاول اختصارها بأدب ودون إشعار الآخر بعدم رغبته بإطالة الكلام فيجيب بماشي.. يرددها بعد أي نقد سلبي يوجه إليه، وبعد كل رأي يقال له، وبعد كل ردة فعل تجاهه، وماشي أبو محمد تملأها الرضى في كل حالاتها.
وكان في الأماكن العامة يفضل الصمت، ويختصر إذا تحدث، كنت أعتقد أن تفكير أبو محمد بسيط، ومسالم لدرجة الخضوع، هكذا كنت أراه من بعيد، فأنا لم أكن يوماً من رفاقه، وكان يكبرني بسنوات فلم أكن من جيله، حتى جاءت تلك الصدفة التي جمعتني به عندما كنت برفقة صديقه، في تلك الجلسة اكتشفت شخصاً عميقاً، وقارئاً مثقفًا، ومحترفاً باختصاصه، وصاحب آراء ذكية وجريئة، كنت مستمتعاً بشخصيته التي اكتشف حقيقتها للمرة الأولى، لكن تناقضاً ظهر أمامي بين شخصيته التي عرفتها عنه وبين التي أشاهدها أمامي الآن، بعد مغادرتي قلت لصديقه بأنني لم أكن أعرف أبو محمد كما عرفته اليوم، أجابني بأن أبو محمد لم يكن كما كنت تعرفه، الرجل الذي يردد كلمة ماشي دائماً، بل كان عندما يلتقي بالناس يتحدث كثيراً ويدخل في نقاشات حادة، ويخاصم ويرد بعنف ولا يتردد في الشتم إذا ما سمع كلاماً وقحاً في حقه، أما التحوّل الذي صار عليه فقصته التي سمعتها من أبو محمد فتعود إلى حادثة الرهان الذي كان بينه وبين أحدهم على معلومة ما، كل يقول بأن معلومته هي الصحيحة، اشتد نقاشهما وعلت أصواتهما، فقال أحد الحاضرين لماذا لا تتراهنان والخاسر يحضر العشاء للجميع؟ وافقا وكان أبو محمد متحمساً بسبب ثقته بصحة معلومته، ما حدث أنه خسر الرهان وكانت معلومة الشخص الآخر هي الصحيحة. دخل أبو محمد في حالة صمت طويلة
وانقطاع عن أصدقائه امتد شهوراً، وظنوا أنه يشعر بالحرج من خسارته للرهان، لكن الصمت والانقطاع لم يكن بسبب خسارته، بل لأن خسارته للرهان طرحت عنده عدة أسئلة كان أبرزها: كم من المعلومات التي لا نعرفها على حقيقتها ونظن بأننا نعرفها؟ كم من القصص والحكايا التي صدقناها بمجرد استماعنا لها وليس لها أساس من الصحة؟ كم من الأحكام التي أطلقناها على أحدهم دون دراية عن واقعه وظروفه؟ أكمل صديقه الحديث وقال إن الرهان كان سبباً في تحول أبو محمد في التعاطي مع كل من حوله، ومع ما يسمع ويقرأ، صار هادئاً غزير القراءة، مدركاً بأن درايته مهما اتسعت يشوبها النقص، وصار يعذر الناس فلا يرد سوء الكلام بالسوء، ولا يصر على رأي، وكان يجيب بالكلمة التي عرفها الجميع عنه.. ماشي. أما أنا ومن هم مثلي يا أعزائي القراء فلا ندري كم رهاناً خاسراً نحتاج لكي نهدأ عند إطلاق أحكامنا، وفي اتخاذ مواقفنا، لكي نعرف بأن بعض ما نعرفه غير صحيح. منذ أن عرفت عن رهان أبو محمد وفي كل مرة أقع فيها بأخطاء الجهل أسأل نفسي: كم رهاناً خاسراً أحتاج.. لكي أتعلم؟!