|


فهد عافت
حاذِر!
2022-01-30
ـ اختلاط العطاء بالمِنّة يحدُثُ كثيرًا، بل كثيرًا جدًّا، لدرجة أنّ افتراقهما؛ وعدم اجتماعهما في قلب الإنسان يُعَدّ فضيلة كُبْرى!. وهو كذلك لأنّ على الإنسان تعليم نفسه وتدريبها بصبر وعزيمة، على تخليص العطاء من المِنّة، والتّخلّص منها، وطردها خارج صدره وفكره وقوله.
ـ قد يكون الأمر سهلًا بالنّسبة للِّسان، أو هو أقلّ صعوبة من بقيّة المواضع، لكنه ليس كذلك بالنِّسبة للقلب والعقل. مع ذلك فإنّه مقدور عليه، بإذن الله، بمزيد من الإيمان وترويض النّفس!.
ـ ولعلّ واحدة من أعظم طُرق تدريب النّفس، ومن أطيب دروب ترويضها: الخبيئة مع الله.
ـ وأظنّها درجات، أوّلها الخبيئة عن الناس، وهي أن تُعطي دون علم الناس، وأوسطها الخبيئة عن المُعطى إليه!، وهي أنْ تُعطي دون علم الناس ودون عِلمْ المُعْطَى بأنّك مُقدِّم العطاء!. وأقول مُقدِّمُهُ ولا أقول صاحبه لأنّ صاحب العطاء هو الله وحده لا شريك له.
ـ أمّا أرفع هذه الرُّتَب وأعلى هذه الدَّرَجات فهي الخبيئة عن نفسك!. وهي أن تُعطي فلا يعلم الناس ولا المُعْطَى ولا حتى أنتَ بالأمر!.
ـ هذه الرّتبة الرّفيعة تحتاج إلى تعلّم الكيفيّة التي تُضْعِف بها ذاكرتك في مثل هذه الأمور الطّيّبة!. ثم بعد ذلك تدريب نفسك على الكيفيّة التي تجعل من هذا النسيان سريعًا وقاطعًا!. ثمّة أشياء مُضاعفتها نقص، وإضعافها قوّة!.
ـ وأظنّ أنّه وطالما لم يصل أحدنا إلى هذه الرُّتْبَة فإنه واهِمٌ في ظنّه الحَسَن بنفسه في هذا الشأن، وأنّ المِنَّة باقية فيه، وكلّ ما في الأمر أنّها نائمة، قد تستيقظ لدى أدنى حفيف أو حسيس أو خشخشة!.
ـ قد يجمع الإنسان بين صفتين رائعتين: الإيمان والصَّدَقَة، ومع ذلك يرتبك أمره، وينقلب حاله، فتَبطُل الصَّدَقَة بالمَنِّ!، وينحطّ الإيمان بالأذى حتى يصل إلى الكفر!.
ـ يقول تعالى:
“يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالْأَذَىٰ كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ۖ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا ۖ لَّا يَقْدِرُونَ عَلَىٰ شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُوا ۗ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ”.
ـ كلّما تدبّرتُ هذه الآية الكريمة، أصابني هلع، فالآية تخاطب “الذين آمنوا” وليس غيرهم، تناديهم بصفتهم وتخصّهم بالنّداء: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا”، لتنهاهم عن المَنِّ، والمَنُّ لا يأتي إلا بعد عطاء!. تُقرّ لهم بالإيمان والعطاء معًا، فانظر كيف يمكن لهما أنْ ينقلبا!. العطاءُ يُبْطله المَنّ، والمَنُّ أوّل الأذى، والأذى شَرّ: “لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالْأَذَىٰ”. هكذا انقلب الخير إلى شَرّ، والهداية إلى ضلالة، والإيمان إلى كفر: “وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ”!. انظر كيف بدأ الأمر وإلى أين انتهى؟!.
ـ ومهما ظنّ الإنسان بنفسه خيرًا، وبُرْءًا من المَنّ، أو من إمكانيّة دخوله إلى قلبه، فإنّ عليه ألّا يذهب بمثل هذا الظّنّ بعيدًا، ذلك أنْ أكرم الخلق صفةً وأكملهم خُلُقًا وأعظمهم خَشيةً لله ومنه، حُذِّرَ بشخصه وصفته من المَنّ!. في القرآن الكريم قال تعالى لخاتم رُسله المصطفى عليه السلام: “وَلَا تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ”. فما بالك بنا نحن؟!.
ـ المنّان هو الله سبحانه وتعالى، لأنّه يعطي ممّا يملك. أمّا المنّان من النّاس فقد أعطى ممّا لا يملك طالبًا بذلك ما لا يستحقّ!.