ـ أظنّه أحد أشهر أبيات الشّعر العربيّ:
“عَلَيَّ نَحتُ القَوافي مِن مَقاطِعِها..
وَما عَلَيَّ لَهُم أَن تَفهَمَ البَقَرُ”!.
يُردَّدُ في المجالس، حتّى تحسب أنّ بعض الناس قد حضر المجلس تحديدًا، واختار موضوعه بعنايةٍ، أملًا في أنْ ينتهي به الحال إلى قفْل حكايته وموضوعه بهذا البيت!. تلك عادة الثقلاء والمتنطّعين، وفي كلّ مجلسٍ عامرٍ لهم أثر، ولا بدّ من وجود أحدهم في الغالب!.
ـ بلغت شهرة هذا البيت درجةً أضاعت القصيدة، والتي هي من أروع ما كُتِب. جاء هذا البيت ضمن قصيدة بديعة حقًّا، ولكني لا أراه إلا بيتًا من الشعر سهل الصياغة عديم الجمال، وفيه من المعنى ما فيه من غِلْظَة مُسْتَنْكَرَة، وصلف منتفخ الحماقة!.
ـ ولكنه اشتهر!. ليس للدرجة التي أضاعت على الناس القصيدة الرائعة فحسب، لكن، أيضًا، للدّرجة التي لم يعد كثير من المردّدين للبيت نفسه يعرفون صاحبه!. أكثرهم ينسبه للبحتري، ومنهم من ينسبه لأبي تمّام، ومنهم من يحسبه للمتنبّي، متمّمين بتلك الحسبة الصورة الشعبيّة لغرور المتنبّي!. ومنهم من ينسبه لآخرين، وهو عند أدونيس لابن الحجّاج: الحسين بن أحمد. ومنهم من يحفظه هكذا دون معرفة قائله، وهذا الصّنف الأخير ألطف من البقيّة وأكثر بساطةً!.
ـ في هذه القصيدة بيت آخَر، لا أعدّه إلا من نوادر الشعر، لا يكاد يذكره أحد، لعمق معناه الدّفين وعظيم صياغته، وإنْ كان بعض النّقّاد يتكئون عليه للتدليل على نقص!. يقول:
“لَم يَبقَ مِن جُلِّ هَذا الناسِ باقِيَةً..
يَنالُها الوَهمُ إِلّا هَذِهِ الصُوَرُ”!.
ـ يا للعبقريّة فيما ظنّه البعض خلل في اللغة وزلل في الصياغة:
“لَم يَبقَ مِن جُلِّ هَذا الناسِ..”!.
كيف يُشارُ إلى الجمْع، و”الناس” جمْع، بقول: “هذا”؟!. أوَلَم يكن الأصح والأنسب والأولى قَوْلُ: “هؤلاء”؟!. ما هذا العكّ؟!. هذه هي أسئلة التّعجّب السّطحيّة اللائمة والمُنتَقِصَة!.
ـ لا أدري أين وقعتُ على القراءة الشعريّة المذهلة لهذا البيت، والتي ردّت إليه عبيره قبل اعتباره!. قراءة تؤكّد أنّ قارئ الشعر شاعر وإنْ لم يكتب!. المعنى يتّسع ويتّخذ آفاقًا ذات أبعاد نفسيّة راعبة: حالة الملل من الناس، من تبعيّتهم العمياء لضوضاء الجموع، من تشابههم التّام نظير الخوف من التعدّد والتفرّد، جعلتهم في نظر الشاعر واحدًا، وهذا الواحد مُستَنسخ إلى آلاف الآلاف، ليس أكثر من ذلك!. وما دام الأمر كذلك فإنّ الإشارة إليهم بـ”هذا” أصحّ وأدقّ بكثير من توهّم استحقاقهم لقول: “هؤلاء”!.
ـ نرجع الآن إلى البيت المُستغلَظ الكريه:
“عَلَيَّ نَحتُ القَوافي مِن مَقاطِعِها..
وَما عَلَيَّ لَهُم أَن تَفهَمَ البَقَرُ”!. والذي يُروى بأكثر من صياغة، مع احتفاظه بالمعنى القميء والرأي المُجحف في حق القارئ!.
ماذا لو قال: “البشر” بدلًا من “البقر”؟! كان سيكون ألطف دون شك، ولكن…!.
ـ هنا يفرق المتنبّي في قوله:
“أنامُ ملئ جفوني عن شواردها..
ويسهر الخلقُ جرّاها ويختصمُ”!.
وأعترف: أكثر ما قرأتُ من شروحات لهذا البيت ذَهَبَت إلى أنّه يقصد الشعراء، وأنّ مُراد القول باختصار أنّه، أيّ المُتنبّي، يكتب روائعه دون تعب وكثير جهد ومُراجعة، بينما بقيّة الشعراء يواصلون الليل بالنهار، ويُرهقهم الأمر، فلا يكتبون إلا بعد عناء ومُكابَدَة، وبالكاد يصلون إلى صياغةٍ جيدة ومعنىً جديد!.
ـ لا أقرأ هذا البيت بهذا المعنى، ولا أقِرّ من هذا الشرح شيئًا!. ولا أرى إلا أنه قَصَدَ القُرّاء، وأنّه غير مُلَزَمٍ كشاعر بملاحقتهم لشرح مقاصده ومعانية، فهو يكتب ثمّ بعد ذلك يترك للجميع، السهر والاختصام قراءةً وتأمّلًا وبحثًا في المعنى والمُراد!. لا يتدخّل في شأنهم، فالكتابة، أي كتابة وكلّ كتابة أدبية، بل وكل عمل إبداعي، هو مُلْك صاحبه إلى أن يُظهره للناس. بعد ذلك يصير له فقط حق الاحتفاظ بنسبة العمل إليه، وربما بكل لازم ومُستَوجَب من حقوق ماديّة ومعنويّة بخصوصه، أمّا تفسير العمل وشرحه وفهمه وطرائق تأمّله واستيعابه، فهي من حقوق القارئ والمتلقّي، وليس مطاردة الفنّان الناسَ بمقاصده إلا نَقِيصَة في الفنّان وعيب منه وفيه وعليه!.
“عَلَيَّ نَحتُ القَوافي مِن مَقاطِعِها..
وَما عَلَيَّ لَهُم أَن تَفهَمَ البَقَرُ”!.
يُردَّدُ في المجالس، حتّى تحسب أنّ بعض الناس قد حضر المجلس تحديدًا، واختار موضوعه بعنايةٍ، أملًا في أنْ ينتهي به الحال إلى قفْل حكايته وموضوعه بهذا البيت!. تلك عادة الثقلاء والمتنطّعين، وفي كلّ مجلسٍ عامرٍ لهم أثر، ولا بدّ من وجود أحدهم في الغالب!.
ـ بلغت شهرة هذا البيت درجةً أضاعت القصيدة، والتي هي من أروع ما كُتِب. جاء هذا البيت ضمن قصيدة بديعة حقًّا، ولكني لا أراه إلا بيتًا من الشعر سهل الصياغة عديم الجمال، وفيه من المعنى ما فيه من غِلْظَة مُسْتَنْكَرَة، وصلف منتفخ الحماقة!.
ـ ولكنه اشتهر!. ليس للدرجة التي أضاعت على الناس القصيدة الرائعة فحسب، لكن، أيضًا، للدّرجة التي لم يعد كثير من المردّدين للبيت نفسه يعرفون صاحبه!. أكثرهم ينسبه للبحتري، ومنهم من ينسبه لأبي تمّام، ومنهم من يحسبه للمتنبّي، متمّمين بتلك الحسبة الصورة الشعبيّة لغرور المتنبّي!. ومنهم من ينسبه لآخرين، وهو عند أدونيس لابن الحجّاج: الحسين بن أحمد. ومنهم من يحفظه هكذا دون معرفة قائله، وهذا الصّنف الأخير ألطف من البقيّة وأكثر بساطةً!.
ـ في هذه القصيدة بيت آخَر، لا أعدّه إلا من نوادر الشعر، لا يكاد يذكره أحد، لعمق معناه الدّفين وعظيم صياغته، وإنْ كان بعض النّقّاد يتكئون عليه للتدليل على نقص!. يقول:
“لَم يَبقَ مِن جُلِّ هَذا الناسِ باقِيَةً..
يَنالُها الوَهمُ إِلّا هَذِهِ الصُوَرُ”!.
ـ يا للعبقريّة فيما ظنّه البعض خلل في اللغة وزلل في الصياغة:
“لَم يَبقَ مِن جُلِّ هَذا الناسِ..”!.
كيف يُشارُ إلى الجمْع، و”الناس” جمْع، بقول: “هذا”؟!. أوَلَم يكن الأصح والأنسب والأولى قَوْلُ: “هؤلاء”؟!. ما هذا العكّ؟!. هذه هي أسئلة التّعجّب السّطحيّة اللائمة والمُنتَقِصَة!.
ـ لا أدري أين وقعتُ على القراءة الشعريّة المذهلة لهذا البيت، والتي ردّت إليه عبيره قبل اعتباره!. قراءة تؤكّد أنّ قارئ الشعر شاعر وإنْ لم يكتب!. المعنى يتّسع ويتّخذ آفاقًا ذات أبعاد نفسيّة راعبة: حالة الملل من الناس، من تبعيّتهم العمياء لضوضاء الجموع، من تشابههم التّام نظير الخوف من التعدّد والتفرّد، جعلتهم في نظر الشاعر واحدًا، وهذا الواحد مُستَنسخ إلى آلاف الآلاف، ليس أكثر من ذلك!. وما دام الأمر كذلك فإنّ الإشارة إليهم بـ”هذا” أصحّ وأدقّ بكثير من توهّم استحقاقهم لقول: “هؤلاء”!.
ـ نرجع الآن إلى البيت المُستغلَظ الكريه:
“عَلَيَّ نَحتُ القَوافي مِن مَقاطِعِها..
وَما عَلَيَّ لَهُم أَن تَفهَمَ البَقَرُ”!. والذي يُروى بأكثر من صياغة، مع احتفاظه بالمعنى القميء والرأي المُجحف في حق القارئ!.
ماذا لو قال: “البشر” بدلًا من “البقر”؟! كان سيكون ألطف دون شك، ولكن…!.
ـ هنا يفرق المتنبّي في قوله:
“أنامُ ملئ جفوني عن شواردها..
ويسهر الخلقُ جرّاها ويختصمُ”!.
وأعترف: أكثر ما قرأتُ من شروحات لهذا البيت ذَهَبَت إلى أنّه يقصد الشعراء، وأنّ مُراد القول باختصار أنّه، أيّ المُتنبّي، يكتب روائعه دون تعب وكثير جهد ومُراجعة، بينما بقيّة الشعراء يواصلون الليل بالنهار، ويُرهقهم الأمر، فلا يكتبون إلا بعد عناء ومُكابَدَة، وبالكاد يصلون إلى صياغةٍ جيدة ومعنىً جديد!.
ـ لا أقرأ هذا البيت بهذا المعنى، ولا أقِرّ من هذا الشرح شيئًا!. ولا أرى إلا أنه قَصَدَ القُرّاء، وأنّه غير مُلَزَمٍ كشاعر بملاحقتهم لشرح مقاصده ومعانية، فهو يكتب ثمّ بعد ذلك يترك للجميع، السهر والاختصام قراءةً وتأمّلًا وبحثًا في المعنى والمُراد!. لا يتدخّل في شأنهم، فالكتابة، أي كتابة وكلّ كتابة أدبية، بل وكل عمل إبداعي، هو مُلْك صاحبه إلى أن يُظهره للناس. بعد ذلك يصير له فقط حق الاحتفاظ بنسبة العمل إليه، وربما بكل لازم ومُستَوجَب من حقوق ماديّة ومعنويّة بخصوصه، أمّا تفسير العمل وشرحه وفهمه وطرائق تأمّله واستيعابه، فهي من حقوق القارئ والمتلقّي، وليس مطاردة الفنّان الناسَ بمقاصده إلا نَقِيصَة في الفنّان وعيب منه وفيه وعليه!.