|


رايولا.. وكيل اللاعبين الذي حاول الإعلام دفنه حيا

الرياض - عبدالرحمن عابد 2022.05.02 | 12:38 am

كان يكنز في حساباته البنكية ما يزيد عن 90 مليون دولار، لديه أصول وعقارات وسيارات في أشهر عواصم أوروبا، يتحدث لغات الدوريات الخمسة الكبرى بطلاقة، لكن بثوب عصامي لا يهتم بالمظاهر الخارجية، ملابس رثة ونظارة شمسية سوداء، راسما لنفسه شخصية الأب الروحي المخلص لنجوم كرة القدم، حيث يتسلح بموهبة عجيبة في إقناع الآخرين، مجسدا المقولة المأثورة في بلاده إيطاليا "من يتقن مهنته لا تتسخ يداه".



وُلد مينو رايولا في 4 نوفمبر 1967، لأبوين إيطاليين من بسطاء مدينة نوتشيرا إنفريوري، التي تبعد مسافة 10 دقائق بالسيارة عن عاصمة فقراء الجنوب نابولي، وتنبض بالتراث الإسلامي إلى يومنا هذا، بمساجدها ومآذنها المميزة، على طريقة الأندلس وباقي المدن الأوروبية التي ظلت تحت الحكم الإسلامي لعقود، والآن يتهافت عليها السياح، لزيارة عشرات المتاحف الأثرية والدينية، والقلاع القديمة الصامدة منذ عصر ما قبل وبعد الرومان، كقلعة الحديقة المطلة على مرتفعات لاتاري، غير أنها تشتهر بلقب "مدينة المائة مدخنة"، إشارة إلى أنها كانت وما زالت مركزا للصناعة، منذ بدايات الثورة الصناعية أواخر القرن التاسع عشر، وعلى مستوى الزراعة، تغذي السوق المحلي بالطماطم والفلفل الأحمر والبطاطس وجُل الحمضيات.



عندما كان رضيعا، هاجر والديه مع عدة فروع من آل رايولا إلى مدينة هارلم، أملا في تحسين المعيشة، بعد افتتاح أول مطعم بيتزا في المدينة الهولندية، حيث كانت البيتزا بمثابة الاختراع الحصري للطليان، ومع الوقت، اكتسب مطعم "نابولي" شهرة طاغية في كل أنحاء الأراضي المنخفضة، ليكبر الرضيع مينو وتأتي لحظة عمله مع الوالد في المطعم بعمر 12 عاما، التي وثقها في مقابلة مع "فاينشنال تايمز" قائلا: "والدي كان يعمل 18 ساعة وأحيانا 20 ساعة في اليوم، وعندما ذهبت للتعرف على عمل والدي، وجدته في المطبخ، فماذا أفعل؟ إلى الآن أحب الاغتسال، لأن تنظيف الأشياء يمنحني نوعا من السلام، حيث ترى نتيجة فورية لعملك".



عكس أغلب الأطفال، لم يهدر رايولا وقته في ركل الكرة في الشوارع أو الأكاديميات، بعد أول ارتقاء في سلمه الوظيفي داخل المطعم، من عامل في المطبخ إلى نادل، بفضل براعته في التحدث مع الزبائن، وأيضا لتفوقه على والده في الجمع بين الهولندية والإيطالية النابولية بطلاقة، فيما جعله ينوب عن الوالد في المفاوضات مع البنوك، وحلقة الوصل مع الموردين الطليان، قبل أن يُدّشن لنفسه شركة هولندية للقيام بأعمال تجارية في إيطالية، على إثرها ساقه القدر ليكون مليونيرا بعمر 19 عاما، نظير حصته من صفقة شراء علامة ماكدونالدز لأحد مطوري العقارات المحليين، ليتوقف عن التفكير في مستقبله، ويبدأ شغفه بكرة القدم.



قامر بمستقبله التعليمي، بترك شهادة القانون في بداية عقد العشرينات، لشغل منصب المدير التقني لنادي هارلم أواخر الثمانينات، بتوصية من عضو مجلس إدارة النادي في تلك الفترة أندريه فان إيردين، الذي اكتشف موهبة مينو المذهلة في التحدث وكسب احترام وحب الناس، بعد تحول مطعم "نابولي" للفرع الثاني لهارلم، وآنذاك كان رايولا "الشخص الذي يرحب بك عند الباب، ثم يقودك إلى الطاولة"، وفقا لرواية فان إيردين، إلا أن تفاوت الطموح بين الشاب المغامر وبين الأفكار القديمة لمديري النادي، جعلته يبادر بتقديم استقالته، اعتراضا على تعطيل صفقة ظلوا يندمون عليها حتى يوم إغلاق النادي عام 2010، شراء دينيس بيركامب من شباب أياكس أمستردام.



مع تشعب علاقاته في الوسط الكروي، بحكم منصبه كمدير رياضي سابق لهارلم، ومسؤول عن ملف الصفقات الجديدة وحلقة الوصل بين الإدارة والجهاز الفني واللاعبين، قرر تطويع مهاراته التي تعلمها في مطعم والده، في مجال عمله الجديد، كوكيل أعمال لاعبين، بمجرد أن لاحظ سهولة كسب المال، بعد اطلاعه على نسبة الوكلاء في بداية التسعينات، على سبيل المثال روبن يانسن، والذي جنى من صفقة انتقال آرثر نومان من هارلم إلى تيفنتي 314 ألف يورو عام 1991، فيما كانت نقطة التحول في مسيرته المهنية، التي بدأها بشركته الخاصة إنتر ميزو.



يروي الراحل رايولا، أن هيئته وتركيبته الجسدية قريبة الشبه بالشخصية البريطانية الخيالية بيلي بونتر، تسببت في تهميشه وتجاهله من قبل البعض، حتى أنه كان كثيرا ما يُسال "من أنت؟"، إلى أن صدم الجمهور الإيطالي عام 1992، بنقل برايان روي من أياكس أمستردام إلى فوجيا، بعد أقل من موسمين من صعود الفريق إلى جنة كرة القدم تحت قيادة زيمان، ولأن عقليته مختلفة عن كل الوكلاء بدون استثناء، عمل كمترجم للاعبه على مدار سبعة أشهر، وتكفل حتى بطلاء جدران حائط المنزل، لتعم المصلحة على الاثنين، بعد انسجام روي وتكيفه مع زملائه الجدد وأجواء الكالتشيو، وهو ما حدث بعد تدخل رايولا شخصيا من خارج الخطوط، لينفذ تعليمات زيمان بالتحرك بشكل قطري في الملعب، قائلا جملته الشهيرة "أرجوك أفعلها من أجلي"، بعدها سجل اللاعب هدفا يروي عنه "ركضت بشكل قطري وسددت الكرة في المرمى، وكان مينو يحتفل بجنون على الخط".



من المواقف الفارقة في مسيرة رايولا المهنية، لقائه التاريخي بالمدير الرياضي لوسيانو مودجي، في بدايات شهرته مع تورينو في التسعينات، آنذاك تلقى اتصالا من سكرتيرة النادي لمقابلة المدير الرياضي عند الساعة 11 صباحا، وبعد وصوله في الموعد، تفاجأ بطابور أشبه بعيادة طبيب أسنان، في انتظار مودجي، معتقدا أنه سيقابل المدير في الموعد المحدد، لكن بعد تأخره ربع ساعة، طلب من السكرتيرة إبلاغه بأنه سيغادر بكل احترام، ليقابله بالصدفة بعد ساعتين في المطعم، وتبدأ المحادثة النارية العابرة بسؤال من رايولا . "هل أنت مودجي؟ نعم. من الوقاحة أن أنتظرك"، ليرد المدير قائلا "من أنت؟ رايولا. آه أنت هو، لن تبيع لاعبا في إيطاليا مدى العمر".



اكتفى رايولا بالرد عمليا على مودجي، وكانت البداية بصفقة أخرى هزت الرأي العام العالمي عام 1993، بنقل دينيس بيركامب من أياكس أمستردام إلى إنتر ميلان، ليتحول في فترة وجيزة إلى أشهر وكيل أعمال لاعبين في إيطاليا، ثم عراف كرة القدم، الذي يرى المستقبل والموهبة في أقدام وعقول الشباب، قبل أن يتحولوا إلى أساطير ونجوم من الطراز العالمي، كان أولهم من وصفه بحلم زيمان، بافل نيدفيد، حين نقله من التشيك إلى فريق زيمان الجديد عام 1996 لاتسيو، ليصبح الباقي تاريخ، قبل حتى تتويجه بالكرة الذهبية عام 2003، كأول وآخر اكتشاف لرايولا يتوج بالبالون دور في عصر ما قبل هيمنة الثنائي الخارق ليونيل ميسي وكريستيانو رونالدو.



مع صعوده الصاروخي، في بداية الألفية، حدد موعدا تحول فيما بعد إلى فصل في كتاب "أنا زلاتان"، حين صدم الشاب السويدي إبراهيموفيتش بهيئته وبساطة ملابسه في مطعم البيتزا، أكثر من ذلك، كان يأكل بطريقة شعبية، ثم خلط أوراق إبرا قائلا "اسمع .. هل تريد أن تصبح الأفضل في العالم؟ أم اللاعب الذي يكسب أكثر ويمكنه التباهي بالأشياء؟"، فرد اللاعب: أريد الأفضل. إلا أنه تفاجأ بمطالب الوكيل وقسوته في النقد، شملت التخلص من سيارته وساعة اليد الفارهة والتدريب 3 مرات يوميا، لتحسين ما وُصف في الكتاب "إحصائياته المقرفة"، وهو ما حدث على مدار أكثر من 15 عاما، كنموذج يُضرب به المثل في إستراتيجية رايولا وعينه الخبيرة في صناعة النجوم، والدليل أن رأس الحربة إبرا ما يزال يلعب مع ميلان في سن الـ40 وبلياقة عشرينية.



وكما ساعد زلاتان على كتابة التاريخ مع يوفنتوس وإنتر وميلان، بخلاف رؤيته الصائبة بنقله إلى باريس سان جيرمان وقت بناء مشروع "PSG" الثري عام 2012، وما حدث بعد ذلك بإرساله إلى مانشستر يونايتد ثم تجربته الأمريكية وإعادته مرة أخرى مع ميلان، فاز برهان العمر مع السير أليكس فيرغسون، إثر نجاح عملية تحريض بول بوجبا على مسؤولي الشياطين الحمر، التي كانت سببا في القطيعة مع شيخ المدربين، وبداية حرب التصريحات النارية بينهما، على غرار ما قاله السير "هناك وكيل أو اثنين لا أحب التعامل معهما، أحدهم رايولا"، فيما كان يعتبرها رايولا "شهادة فخر"، باعتباره أول من تحدى المدرب البريطاني في أعظم لحظاته في عالم التدريب، ثم أحرجه بصناعة نسخة بوجبا يوفنتوس، الذي أجبر اليونايتد على إعادته مرة أخرى في صفقة قياسية، بلغت نحو 89 مليون جنيه إسترليني عام 2016.



ظل يتباهى بالنجوم والمواهب التي يرسم مستقبلها، من نوعية الحارس جيجي دوناروما منذ أن كان مراهقا، حتى جمهور الكرة الإيطالية يتذكر المؤتمر الصحافي الذي عقده الراحل من المطبخ عام 2017، للرد على هجوم جماهير ميلان على الحارس الناشئ آنذاك، وبالمثل ماتياس دي ليخت، لاعب أياكس السابق ويوفنتوس حاليا، ماركوس تورام، مالين وفي مقدمتهم الوحش الاسكندينافي هالاند، الذي كان ينتظر منه عمولة تاريخية، يُقال إنها كانت ستكسر حاجز الـ50 مليون يورو، جراء انتقاله من بوروسيا دورتموند إلى مانشستر سيتي أو أحد الأثرياء الطامعين في ضمه في الميركاتو الصيفي، وفي الأخير استيقظ عالم كرة القدم على خبر وفاة مرتين، الأولى صباح الخميس حين دفنه الإعلام العالمي حيا، والثانية بتأكيد الخبر بعد 48 ساعة، تاركا سيرة ذاتية وبصمة لن تمحى من التاريخ المعاصر لكرة القدم، لخصها رئيس يوفنتوس آندريه آنييلي برسالة مؤثرة بعد استقبال خبر الوفاة، قائلا "لا تحاول أن تخدعهم في الجنة .. فهم يعرفون الحقيقة.. أنا أحبك".