لم أعرف أصدقاء صبورين لهذه الدرجة، أقاطعهم وأعود إليهم دون أن يعاتبونني سوى الكتب، أستفيد منها فوائد كثيرة دون أن أرد لها شيئًا فلا تسأل ردًا للجميل، أجد المتعة الخالصة معها دون أن تحملني مشقة ضيافتها، وغالبًا إذا ما هجرتها مدة أعود إليها وأنا متعب أو محبط، فتعيدني للحياة وأنا بكامل النشاط والصفاء.
لذلك صرت أشتري الكتب بقدر استطاعتي ماليًّا في كل مرة أدخل فيها مكتبة، رغم علمي بأن بعضها سينتظر طويلًا لكي أقرأه، ومع هذا أشتري ما أستطيع منها لأنني أعرف بأنني أشتري ما هو ذخر للعقل والسعادة والمتعة والوحدة والحزن، ومع أنني لم أتعرف شخصيًّا على معظم الكتّاب الذين قرأت لهم إلا أنني أشعر بصداقتي لهم، ولوجود هذه الصداقة أعرف حكاياتهم مثلما يعرف الأصدقاء حكايات بعضهم، وكم تمنيت لو أنني التقيتهم لأسألهم عن تفصيل معين، أو عن حالة مشاعرهم في الموقف الذي كتبوا عنه، ولأعبّر لهم عن التأثير الذي أحدثوه داخلي، خصوصًا أولئك الذين كتبوا سيرهم الذاتية، وهذا ما يفسر حزني الصامت عندما أقرأ خبر رحيل أحدهم.
ألّف أحد الزملاء كتابًا وأهداني إياه على أمل أن يستمع لرأيي وملاحظاتي، كنت شابًا صغيرًا، أقرأ أسبوعًا وأتوقف أسابيع، ويبدو أن تلك الأسابيع صادفت الفترة التي أهداني فيها كتابه، بعد مدة سألني عن رأيي، أجبته بأنني لم أقرأه لغاية الآن، ثم سألني بعد مدة فأجبته الإجابة نفسها، حينها قال: أنت لا تعرف كم تعبت في كتابة هذا الكتاب. بقيت كلماته في ذاكرتي مدة، ونسيتها مع الوقت، حتى تذكرتها قبل أيام عندما كنت أقرأ صفحات من السيرة الذاتية لرضوى عاشور (أثقل من رضوى)، تحدثت فيه عن الكتابة والحالات التي يعيشها الكاتب لكي يكتب لنا ما نقرأه، وكيف أن ما بين أيدينا أكبر من أفكار وموهبة صياغة.
أنقل لكم ما كتبته رضوى عاشور بعنوان مقال قصير عن الكتابة (ليسمح لي القارئ والقارئة أن أتوقف في هذا الفصل لأتحدث عن الكتابة، لا بوصفها منتجًا أو وظيفة، ولا إبداعًا له شروط كالموهبة والمعرفة والدرَبَة، بل بوصفها فعلًا يتشكل في الدماغ وعلى الورق (أو على شاشة الكمبيوتر)، لا ينحصر في توفير أدوات إنتاج ومكان ينزوي فيه الإنسان حين يأتي عفريت الكتابة بما يأتي به وينفرد به ويلازمه على مدار الساعة، نعم، الكتابة فعل أناني طارد يفرض درجة من العُزلة الداخلية، ينفيك عمن حولك أو ينفي من حولك، يضعهم على الرفّ إلى حين، لأنك حتى وإن كنت تجلس معهم، تشاركهم الأكل أو الكلام، فأنت في مكان آخر، منشغل به ومأخوذ. نعم الكتابة فعل أناني طارد. لا تفوتني المفارقة، لأنها فعل ينفي الآخرين ليخاطبهم ويصيغ علاقة بهم، ويشكل ما يشكِّل بلغتهم، (لأن لا أحد يمتلك لغة بمفرده). ينفيهم ليكتب حكايتهم، يقصيهم ليراهم أكثر. يبتعد ليقترب، ويعزلك ليتيح لك تبديد وجودك المُفْرَد وإذابته في وجودهم ومكانهم وزمانهم. عجيب!.
لذلك صرت أشتري الكتب بقدر استطاعتي ماليًّا في كل مرة أدخل فيها مكتبة، رغم علمي بأن بعضها سينتظر طويلًا لكي أقرأه، ومع هذا أشتري ما أستطيع منها لأنني أعرف بأنني أشتري ما هو ذخر للعقل والسعادة والمتعة والوحدة والحزن، ومع أنني لم أتعرف شخصيًّا على معظم الكتّاب الذين قرأت لهم إلا أنني أشعر بصداقتي لهم، ولوجود هذه الصداقة أعرف حكاياتهم مثلما يعرف الأصدقاء حكايات بعضهم، وكم تمنيت لو أنني التقيتهم لأسألهم عن تفصيل معين، أو عن حالة مشاعرهم في الموقف الذي كتبوا عنه، ولأعبّر لهم عن التأثير الذي أحدثوه داخلي، خصوصًا أولئك الذين كتبوا سيرهم الذاتية، وهذا ما يفسر حزني الصامت عندما أقرأ خبر رحيل أحدهم.
ألّف أحد الزملاء كتابًا وأهداني إياه على أمل أن يستمع لرأيي وملاحظاتي، كنت شابًا صغيرًا، أقرأ أسبوعًا وأتوقف أسابيع، ويبدو أن تلك الأسابيع صادفت الفترة التي أهداني فيها كتابه، بعد مدة سألني عن رأيي، أجبته بأنني لم أقرأه لغاية الآن، ثم سألني بعد مدة فأجبته الإجابة نفسها، حينها قال: أنت لا تعرف كم تعبت في كتابة هذا الكتاب. بقيت كلماته في ذاكرتي مدة، ونسيتها مع الوقت، حتى تذكرتها قبل أيام عندما كنت أقرأ صفحات من السيرة الذاتية لرضوى عاشور (أثقل من رضوى)، تحدثت فيه عن الكتابة والحالات التي يعيشها الكاتب لكي يكتب لنا ما نقرأه، وكيف أن ما بين أيدينا أكبر من أفكار وموهبة صياغة.
أنقل لكم ما كتبته رضوى عاشور بعنوان مقال قصير عن الكتابة (ليسمح لي القارئ والقارئة أن أتوقف في هذا الفصل لأتحدث عن الكتابة، لا بوصفها منتجًا أو وظيفة، ولا إبداعًا له شروط كالموهبة والمعرفة والدرَبَة، بل بوصفها فعلًا يتشكل في الدماغ وعلى الورق (أو على شاشة الكمبيوتر)، لا ينحصر في توفير أدوات إنتاج ومكان ينزوي فيه الإنسان حين يأتي عفريت الكتابة بما يأتي به وينفرد به ويلازمه على مدار الساعة، نعم، الكتابة فعل أناني طارد يفرض درجة من العُزلة الداخلية، ينفيك عمن حولك أو ينفي من حولك، يضعهم على الرفّ إلى حين، لأنك حتى وإن كنت تجلس معهم، تشاركهم الأكل أو الكلام، فأنت في مكان آخر، منشغل به ومأخوذ. نعم الكتابة فعل أناني طارد. لا تفوتني المفارقة، لأنها فعل ينفي الآخرين ليخاطبهم ويصيغ علاقة بهم، ويشكل ما يشكِّل بلغتهم، (لأن لا أحد يمتلك لغة بمفرده). ينفيهم ليكتب حكايتهم، يقصيهم ليراهم أكثر. يبتعد ليقترب، ويعزلك ليتيح لك تبديد وجودك المُفْرَد وإذابته في وجودهم ومكانهم وزمانهم. عجيب!.