|


صالح الخليف
أوروبا التي رأيت..
2024-06-14
كحلم يباغتك في منتصف نومة عميقة ولا يترك لك شيئًا تتذكره.. مثل حكاية مرعبة سمعتها في طفولتك ولم يتبقَ من تفاصيلها سوى عنوانها الكبير.. كوجه رجل لديك يقين تام بأن ملامحه ارتسمت في عينيك، لكنك عاجزٌ تمامًا عن معرفة المكان والزمان اللذين صادفته فيهما.. بهذه الطريقة تتفلت من رأسي بدايات تعلقي ببطولة الأمم الأوروبية.. مبكرًا جدًا عرفت أنها أقوى بطولة كروية على وجه الأرض.. كانت حينها وسائل الإعلام شحيحة وصعبة ومعقّدة.. كان البحث عن مجرد معلومة عابرة يحتاج طرائق وتواقيت كثيرة حتى يمكن الوصول إليها، فضلًا عن التوثق من مدى صحتها ومصداقيتها.. كانت أيام متوافقة مع طبيعة الحياة وطبيعة الناس وطبيعة العالم.. ما كان الاهتمام بتفاصيل كرة القدم العالمية يوازي ولو واحدًا في المئة مما يحدث اليوم.. المنتخب العالمي الذي تشجعه في تلك الليالي الخوالي ربما لا تعرف من نجومه سوى ثلاثة.. نجمك المفضل بالكاد تحفظ اسمه الثنائي ورقم قميصه، ثم تلاحق صوره في مجلة الصقر.. حرفيًا وفعليًا كانت أجواء يستعصي علينا في هذا الزمان روايتها بروح الفخر أو أنين المعاناة.. لا فرق.. لا فرق.. خطى كتبت علينا..
هذه أوروبا الآن تطرق الأبواب.. وتحيي تلك الشتلات الصغيرات التي كبرت في رأسك وتمددت وتشعبت، حتى باتت جذورها وجذوعها وأوراقها ممتدة على كامل تفاصيل اهتماماتك وهواياتك، وأيضًا متنفسك البريء حينما تعاندك الدنيا بكراهية وجفاء.. إنها كرة القدم الضحوكة التي تهديك الفرح حينًا، وتغرقك بالدموع حينًا، وتحيطك بالحب في كل حين.. أوروبا تطرق الأبواب كضيف تنتظر لقياه، غاب سنواتٍ أربعًا وانقطعت أخباره وكأنه مسافر لن يعود.. وحينما يعود، لا يأتي بوجه بغيض أو ملابس رثة وكلام جارح.. يأتي محملًا بالهدايا، والبشائر الطارئة والمفاجآت المحببة للنفس وابتسامات عريضة.. باستثناء البرازيل والأرجنتين هاتين الساكنتين في الأماكن المجهولة من هذا الكون، بقيت أوروبا هي الغابة الفسيحة التي جعلت من كرة القدم صناعة حيوية تتغلل في تفاصيل الاقتصاد والترفيه والتسويق والتخطيط.. وكل شيء يمكن ترسيخه في خدمة الإنسان..
أوروبا وبطولتها الكروية على الأبواب، وأنظار العالم كله تتجه إلى بلاد الألمان الذين قدموا للبشرية المرسيدس والبي إم دبليو، وأديداس، والطائرات والماكينات الضخمة، وجيش من مصانع العلاج لإنقاذ ملايين المرضى.. وإذا كان العالم على الدوام ينظر إلى ألمانيا كونها ذراعًا تنموية لا يمكن الاستغناء عنها بسهولة، فهي بحضرة السيدة كرة القدم ستتعامل معها كمسرح تستوعب خشباته اللغة الوحيدة التي لا تحتاج إلى ترجمان.. لغة تحاكي نفسها، كما تفعل الحمائم والعصافير والطيور المهاجرة عندما تتوحد في أسراب هائمة على وجوهها في كبد السماء.. لغة ممتعة بلا صوت ولا كلمات أو عبارات.. لغة يتلاقى معها قلب مشجع معدم في قرية نائية، ومشاعر ثري يقضي إجازة الصيف على شواطئ إمارة كان الفرنسية.. إنها لغة كرة القدم التي تجمع كل المتناقضين في سهرة حب واحدة.. كرة القدم وأوروبا، ما هي إلا علاقة رجلين حكيمين يتمتعان بالأنفة والشموخ والترفع عن سفاسف الأمور.. علاقة مزدحمة بالتجربة الحية وخبرة السنين ومعرفة خفايا الأزمنة البغيضة وأسرار اللحظات المؤلمة ونوائب الدهر.. علاقة أضداد، اجتمعوا وتجاوزوا كل خلافاتهم المشؤومة، وتعاهدوا على التغيير إلى آخر العمر..
وكل يوم هنا، سأجول بذاكرتي وراء هذه البطولة الكروية الأخّاذة التي أخذت لنا مكانًا قصيًا في متنزهٍ مفتوح لا نبرح منه سوى بالشبع والارتواء من كل ما تقدمه الساحرة العزيزة، من تحدٍّ يملأ الوقت بسلاسل لا تنقطع من مشاهد التحدي والقوة والابتكار.. سأتذكر بما ترك لي الزمن لاعبًا أحببته حبًا جمًا.. سأقول لماذا عشقته ولماذا رأيته متمايزًا عن من سواه.. سأتذكر لاعبًا كرهته كراهية الموت.. سأقول لماذا تصبّغ قلبي بالبغضاء والسواد تجاهه.. سأتذكر مدربًا جعلني أحترم مهنة التدريب والتكتيك والفكر الكروي الحديث.. سأتذكر منتخبًا وقعت في شراك محبته ولم أستطع الفكاك منه حتى اليوم، رغم عثراته وخيباته وحظه الغابر.. سأقول لما تخاصمت مشاعري مع منتخب آخر ولم تستطع السنين أن تقطع هذه الفجوة بيننا.. ولدي أقوال أخرى..!!