|


سيري.. انطلق بقدمين حافيتين.. وبرشلونة ضيّع حلم الطفولة

الرياض ـ أسامة فاروق 2024.08.27 | 03:35 pm

في يوبوجون، إحدى ضواحي أبيدجان، العاصمة الإيفوارية، وأكثرها اكتظاظًا بالسكّان، يتخلّى الصبية، وهم يلعبون كرة القدم، عن أحذيتهم طواعيةً، ويركضون حفاةً على الأرضيات الموحلة، بوصفها الطريقة المثلى لتعلم اللعبة، كما يرى مدرّبوهم.
تلك الضاحية المُحاصَرة بين غابة بانكو وبحيرة إيبريه، المأهولة بما يزيد عن مليون ونصف المليون نسمة، عرفت العقد قبل الماضي ظهور فتى مع جيل من أولئك الصبية، نحيل الجسد قصيره، يُجابه أثناء اللعب مَنْ يكبرونه سنًا وحجمًا، يُدعى جان ميشيل سيري، وينادونه بـ «جالا».
بدأ سيري لعب الكرة في يوبوجون منذ مرحلة عمرية مبكرة، وتأثَّر بالأرجنتيني مارسيلو جالاردو «جاياردو»، مدرب الاتحاد السابق، الذي كان واحدًا من نجوم تلك الحقبة، وكان يحاول تقليد أسلوب لعبه، لذلك غلب عليه التلقيب بـ «جالا»، نسبةً إلى مُلهمه.
مِثل أقرانه، تأسّس الإيفواري، الذي وقّع أخيرًا مع نادي العروبة، باللعب من دون حذاء على الوحل. «كانوا يشجعوننا على اللعب حفاة القدمين فوق الملاعب الطينية لنتعلم كيفية التحكم بالكرة، والشعور بها، وإتقان ترويضها.. إنها أفضل طريقة.. كنت أريد اللعب بالأحذية، لكنني أدركت الفوائد لاحقًا.. بصفتي لاعبًا صغير الحجم كان عليّ إيجاد طرق للعب مع المنافسين الأكبر حجمًا. لم يكن الأمر يتعلق بالقوة، وإنما بالذكاء. كان علي أن أكون مبادرًا في قراءة اللعبة، والتفاعل معها، وتحريك الكرة سريعًا للفوز بالمبارزات».
في سن الـ 16 أصبح لاعبًا لأفريكا سبورتس، أحد قطبي عاصمة بلاده، وبعد ثلاثة أعوام انتقل إلى الغريم والجار أسيك ميموزا، سعيًا وراء خوض منافسات دوري أبطال إفريقيا، غير آبه بوقع هذه الخطوة على أنصار ناديه الأول. «إنهما أكبر ناديين في ساحل العاج لذا لم يكن ما فعلته مستساغًا، وهذا وضعني تحت الضغط في أسيك، لكنها كانت بمثابة خطوة للأمام».
توهّج سيري في النادي الإيفواري الأكثر تتويجًا، الذي قدّم من قبله الأخوين كولو ويحيى توريه، وسالومون كالو، واختير أفضل لاعب في الدوري 2012. واستدعاه منتخب بلاده للمرة الأولى، وحينئذ تنبَّهت الأندية الأوروبية إلى موهبته الناشئة.
أبرز ما تميَّز به وانتزع الإعجاب، كان ميله الدائم إلى اتخاذ قرارات غير تقليدية، وليس مجرَّد تمرير الكرة إلى أقرب زملائه. «كلاعب، إذا لم تكن على استعداد لتجربة أشياء مختلفة، فلن تُظهر إمكاناتك الحقيقية أبدًا، عليك تحمُّل المخاطر، ليس بما يؤذي فريقك، لكنّني أعني التمرير للأمام الذي يفاجئ خصومك، وإلا فإنك ستغدو مثل حامل المياه. منذ صغري، كانت لديّ دائمًا نزعة التطلع إلى الأمام واختبار نفسي».
بعد اختبار ميداني دام أسبوعًا في نادي بورتو البرتغالي، خريف 2012، وقّع سيري عقدًا قصير الأمد مع «التنانين»، وحصل على فرصة التدرُّب برفقة أسماء من عينة جواو موتينيو، والكولومبي جيمس رودريجيز، لكنه لم يشارك سوى في مباريات الفريق الرديف.
بعد نهاية الموسم عرض عليه نادي باكوس دي فيريرا، الذي أنهى الدوري ثالثًا لجدول الترتيب، الانضمام إليه، ووعده بمشاركة أكبر، تحت إشراف المدرب البرتغالي باولو فونسيكا، صاحب البصمة الغائرة في مسيرة اللاعب. «كان بورتو بمثابة مدرسة لي، أمّا فونسيكا فعلمني أن أشعر بكرة القدم، وأعيشها، وأتنفسها. معه كنت أعرف ما يجب عليّ فعله قبل تسلمي الكرة. قدّم لي الكثير لأشعر بالامتنان له».
فقط نصف مليون جنيه إسترليني، نقله صيف 2015 إلى نيس الفرنسي، الذي أراد مدربه كلود بويل بناء ديناميكية الفريق حوله، وسعى لاستثمار سماته القيادية، وأسلوبه في التسديد. وهناك عُقِدت مقارنة بينه والنجم الإسباني تشافي هيرنانديز، الذي يراه مثلًا أعلى له. لذلك عندما تقدَّم بوروسيا دورتموند الألماني ومارسيليا الفرنسي بعرضين للحصول على خدماته، لم يعرهما اهتمامًا، لأنه كان يتوق فقط منذ صباه للالتحاق ببرشلونة، النادي التاريخي لتشافي.
في صيف 2017 بدا حلمه قريبًا من التحقق، فقد كان الكاتالونيون على استعداد لدفع 40 مليون يورو، قيمة الشرط الجزائي في عقده مع نيس، وحضر وفد منهم مباراة الفريق على أرضه مع نابولي الإيطالي ضمن الملحق المؤهل لدوري أبطال أوروبا، وفجأة اختلف الطرفان خلال اليوم التالي على الرسوم وانهارت الصفقة، وتحوّل برشلونة إلى خيار البرازيلي باولينيو «لاعب الأهلي السابق».
خيبة أمل هائلة أرخت أستارها على اللاعب بعد تبدُّد حلمه. فقد توازنه، واستبعده المدرب من مباراة الفريق مع أميان ريثما يتعافى نفسيًا. «لقد أثّر ذلك فيَّ. كل شيء كان يتعلق بالمال. ولكن ماذا يمكنك أن تفعل؟ الحياة مستمرة. ربما كانت إرادة الله. أنا متديّن، ولديّ إيماني، وكما أعطاني الله فرصة الذهاب إلى البرتغال، ربّما كان قدري ألا أنتقل إلى إسبانيا».
طوى سيري الصفحة، ونفض غبار الحزن سريعًا. عاد إلى الفريق عبر مباراته مع موناكو في الدوري، وقدّم أحد أفضل عطاءاته، وقاد زملاءه للفوز برباعية نظيفة، لكن الفريق مرّ بموسم متواضع، قرر بعده اللاعب حزم حقائبه قارعًا أجراس الرحيل.
التقارير الصحافية ربطته بأندية إنجليزية عدة أبدت اهتمامها بخدماته، منها ليفربول، وتشيلسي، وتوتنهام، مع ذلك اختار فولهام. «عندما لعبت مع باكوس دي فيريرا، طلبني نيس، وجاء بالفعل من أجلي. أرادني فولهام بالطريقة ذاتها. قالوا: نريدك، تعال إلينا. لقد رآني تشيلسي وتوتنهام وليفربول، لكنهم لم يقولوا نريدك، ولأن فولهام خصّني بهذا الاحترام، أردت التوقيع معهم، على الرغم من كل تلك الاهتمامات الأخرى».
بالنسبة له كان الدوري الإنجليزي تحديًا مختلفًا عمّا قبله، غيَّر أسلوب حياته كي يتكيَّف مع متطلبات اللعب في هذه البطولة. «يتحدث الناس عن البريميرليج، وكثافته، وقوته البدنية. إذا لم تكن مستعدًا، فسوف تفشل. إنها بطولة تتطلب الجهد والتضحيات في حياتك اليومية، لذلك لا يمكنك السماح للمعايير بالانزلاق».
بدأ اللاعب مشواره بقوة مع فولهام، وسجّل هدفًا، بتسديدة مذهلة ضد بيرنلي، اختير الأجمل لشهر أغسطس، وبعد انقضاء موسمه الأول أعير لجلطة سراي التركي، ثم عاد وبقي ستة أشهر وأعير مجددًا، يناير 2021، لبوردو الفرنسي.
حين عاد من بوردو، وجد فولهام في القسم الثاني، وكان يتبقى له عام وحيد وينتهي عقده، ولم يفاتحه أحد للتجديد. قرَّر الاستمرار وقاد الفريق للصعود مجددًا، ثمّ رحل.
لم يبتعد لاعب الوسط عن القسم الثاني، انضمَّ إلى هال سيتي، الناشط في البطولة، واستمرَّ معه موسمين، قبل الانتقال للعروبة.
وسط موسمه الثاني والأخير برفقة هال، عاش الحدث الأكبر والأهم في مسيرته، عندما عاد إلى بلاده لخوض منافسات كأس الأمم الإفريقية، يناير الماضي، مُلبيًا دعوة اختياره ضمن القائمة لنسخة رابعة على التوالي من البطولة القارية.
جلس سيري احتياطيًا دون مشاركة طيلة دور المجموعات، واكتفى أصحاب الضيافة بحصد 3 نقاط من فوز وهزيمتين، وصعدوا بما يُمكن وصفه بـ «معجزة»، وغادر مدربهم الفرنسي جيان لويس جاسكيه بعد التأهل، وتولّى مساعده المحلّي إيميرس فاي المُهمّة خلفًا له، واتَّخذ قرارات تصحيحية، أحدها إقحام لاعب هال أساسيًا، على مدى المراحل الإقصائية، وفي نهاية المطاف حقق أبناء كوت ديفوار اللقب بسيناريو يصعب تكراره.