|


محمد المسحل
لا محالة مشتوم..
2024-10-18
قال ابن حزمٍ الأندلسي «رحمه الله»:
«من تصدّر لخدمة العامّة، فلا بد أن يتصدّق ببعضٍ من عِرضه على الناس، لأنه لا محالة مشتوم، حتى وإن واصل الليل بالنهار». قال رحمه الله مقولته العظيمة تلك، قبل ألف سنة، وهو في أزهى عصر من عصور الدولة الأموية، التي كانت تحكم الأرض من حد بكين الصينيين إلى حد باريس الفرنجة، ومع ذلك، كان هناك من يفجر في الخصومة ويشتم ويشنع فيمن يعملون للصالح العام، وما نحن بأحسن منه، وما سجايانا بأفضل من سجاياه وسجايا شيوخه وطلابه، وما عصرنا بأفضل من عصره، وهنا لا يقول المرء في حال إن كان ممن يعمل في خدمة العامة، في عصرنا الحالي، إلا ما قال ابن حزمٍ باحتسابه الأجر من الله بتصدّقه على من نال من عِرضه بشتم، وبذمتّه من بهتان، وبمشاعره من سخرية وتشنيع.
قد يعتقد البعض أن عصر ابن حزمٍ كان خاليًا من هؤلاء الذين لا هم لهم إلا شتم هذا، والهمز في هذا، واللمز في ذاك، وقذف الناس بالباطل، والتشهير بهم لأسباب شخصية أحيانًا، ولمصالح شخصية أو عملية في أحيان أخرى، والحقيقة أن عصره لم يخلُ من ذلك على الإطلاق، ولكن الفرق هنا أن منصاتهم كانت في المجالس والأسواق فقط، ومنصاتنا أصبحت سحابات تلاحق الحيّ أينما ذهب، لتهطل عليه أمطار سواد القلوب، وخبيث النوايا، ممزوجة بطعم لحم الميتة.
في جميع العصور، الماضية والحالية، العامل في الشأن العام، وطالما أنه يعمل، معرّض للصواب والخطأ، وللنجاح والفشل، وله وليّ أمرٍ يقيّم عمله ويسدي له المكافأة أو العقاب، حسبما يراه من نتائج، وله ربُّ يحاسبه على ما ظهر وما بطن خلال مهمته، وللعامة كامل الحرية بتقييم عمله بل ويلومه ومدح عمله أو ذمّه!، وإن حدث وخان أمانته، فلهم الحق الذي حلله الله لهم في شأنه. ولكن، ليس لهم الحق باستغلال منصاتهم ومنابرهم بالنيل من شخصه أو تصفية حسابات ما كانت لتُصفّى لو كان هذا المسؤول متجاوبًا معهم فيما كانوا يصبون إليه معه.
في عصر ابن حزم، كان غالب الشامتين والشاتمين والساخرين، هم من أهل الرأي والشأن في العلوم أو الدين أو الشعر والتاريخ، بينما في عصرنا الحالي، تجد أن أغلب هؤلاء هم ممن لم يرَ من العلم أبعد من أرنبة أنفه، ولا يعرف من الشجاعة سوى استغلال منبر وبضعة مصفقين مدفوعي الأجر، ولا يعرف من الشجاعة سوى الاختباء وراء اسمٍ مستعار كله عار، وعن الصحة عار.
بعض المسؤولين قد لا يجيدون لعبة السياسة مع أهل المنصات والمنابر، إمّا لقلّة خبرة أو زيادة نبل وترفّع، ولا يفضلون تضييع وقتهم على ضحد المهاترات والتفاهات وسفف الطرح، ولذلك، فهم وأهلهم وأسرهم وأحبابهم يتجرعون مُر الكثير من البهتان والتشهير وتصفية الحسابات الخالية من كل معاني المروءة والنخوة والمرجلة. ومع أن ضحاياهم أحيانًا يحذون حذو ابن حزم رحمه الله، إلا أن كثيرًا منهم، أودعوها في حسابهم عندما يتقابلون عند الديّان، قاض السموات والأرض، جلّ جلاله.