الإنجليز لا يفوزون.. تشرشل ومدرب الاتحاد وكلام ماكلارين..!
لا يعرف الإنجليز خسارة الحروب.. لا يعرفون الانكسار في ساحات الوغى.. هذه ليست في قواميسهم المتوارثة، ولا في هوامش دفاترهم العتيقة أو دساتيرهم الراسخة أمام رياح السنين.. تاريخهم مشبع بانتصارات لا تنتهي.. من معركة الطرف الأغر التي أركعت فيها البحرية البريطانية جحافل الإسبان والفرنسيين قبل مئتي عام، وحتى الحرب العالمية الثانية التي مرّغ فيها الحلفاء بقيادة العقل المدبّر ونستون تشرشل وجه وكبرياء وتجبر وغرور المتهور الألماني أدولف هتلر بالتراب.. فيما بعد أصبح تشرشل هذا رمزًا تاريخيًا في سجلات البواسق الإنجليزية المنتصرة.. أصبح هتلر أيقونة الخسارة والطغيان والمغامرات المجنونة..
كرة القدم لعبة أخذت من الحروب شراستها ورهاناتها الرابحة، ولحظات تحبس الأنفاس، والرقص على الحبال المهترئة.. أخذت من الحروب تغيّر الحال بلا مقدمات.. أخذت تحمّل الجميع عواقب قرار رجل واحد.. أخذت مدامع الفرحة القادمة من المستحيل.. أخذت حفلات الأحزان الجارحة..
تلك الحروب وحكاياتها الممتدة على مساحة التاريخ والجغرافيا، وحينما بدت وكأنها بالفعل تتقاطع مع كرة القدم في تفاصيل صغيرة وكبيرة، استعصت على الإنجليز بالذات في هذه الحالة المستنسخة، فجعلتهم في عداد الخائبين فُرادى وزمرًا.. النحس والفشل والحظ الرديء ترك الإنجليز بعيدًا عن أي نجاحات «يَبخصُها» كل من ألقى السمع وهو شهيد.. لا بطولات.. لا نجوم يتصدرون القائمة الأسطورية الأولى.. والأكثر أهمية واهتمامًا وإثارة للاستغراب، إنجلترا بلا مدربين يمكن النظر إليهم بعينين مملوءتين بالإعجاب والافتتان.. إنجلترا سيدة كرة القدم في العالم.. إنجلترا صاحبة أقوى دوري كروي في العالم.. إنجلترا التي رسّخت قواعد كرة القدم وقوانينها في العالم.. هذه إنجلترا بلا مدرب واحد يمكن الحديث عنه طويلًا كما تتحدث القلوب العاشقة في أمسيات الحب والموسيقى والغرام.. نعم إنجلترا لم تستطع حتى يومنا هذا تقديم مدرب واحد.. واحد فقط يمكن تناول سيرته ومسيرته وفكره وطريقته كنموذج يهتدي به أولئك الباحثون لهم عن موطئ قدم في أكثر المهن الذهنية صخبًا وتحديًا وأعصابًا مشدودة من الوريد إلى الوريد.. أن تكون مدربًا فذًا وخارقًا، فهذا يعني وقبل كل شيء ألا تكون إنجليزيًا.. يا لهذه المعادلة البسيطة التي يصعب على العقول المجردة التعاطي معها حقيقة ثابتة لا تقبل القسمة على اثنين، تمامًا كما هي النجوم السابحة في كبد السماء..
دون خليط من الخجل والبجاحة، لا يمكن الإشارة مثلًا إلى أن آخر مدرب إنجليزي حقق الدوري في بلاده كان وجهًا لا تحفظه الذاكرات الكثيرة، واسمه هوارد ويلنكسون، وفعلها مع فريق يدعى ليدز يونايتد.. حدث هذا عام 1991، أي قبل خمسة وثلاثين عامًا.. بعد السيد ويلنكسون ذهب المدربون الإنجليز يتشمسون على الشواطئ الدافئة.. يلعبون الكوتشينة مع أصدقاء الطفولة ورفقاء الجامعة.. يسهرون حتى مطلع الفجر.. ينسجون أحلامًا بعيدة المنال.. يتابعون المسلسلات المكسيكية المترجمة.. يحضرون حفلات ميلاد أحفادهم.. يتسوقون الماركات العالمية الفاخرة.. يحضرون سباقات الفورملا 1.. يتنبؤون في الحوارات التلفزيونية عن مستقبل اللعبة.. يقيّمون أداء المدافعين والمهاجمين وما بينهما.. ينشغلون بمتابعة حركة الصعود والهبوط على شاشات أسواق البورصة.. يقتنون نوادر السجاد والأنتيكات والأحجار الكريمة.. يجمعون العملات النقدية المهددة بالانقراض.. يربّون القطط الشيرازية ذات الشعور الكثيفة.. يمارسون هوايات غرائبية تبدو من زمن نبلاء الإغريق.. يفعلون كل شيء وأي شيء، بعيدًا عن تدريب فرق كرة القدم.. هذه مهمة جسورة بحاجة رجال تتغلغل في أجسادهم أعصاب فولاذية، وتنبض وراء عظام صدورهم قلوب تحمل بصمات الأسود والضباع وذئاب الجبال الخائنة.. مهمة ظاهرها الشهرة والمال وضوء لا يخفت، وباطنها ضغوطات ما جعلتها الأيام صالحة للإنجليز..
قبل قرابة السنوات العشر فتح المدرب الإنجليزي البار ستيف ماكلارين ذات القضية.. بنبرة يعلوها الأسى روى ذاك الرجل الفني لموقع «سي إن إن» الحكاية كما هي في واقعها المظلم، معترفًا بكل عفوية ووضوح أن المدرب الإنجليزي يعاني كثيرًا ويواجه صعوبات عديدة في رحلته الوعرة لإثبات نفسه في الدوري الإنجليزي.. أشار حينها ماكلارين إلى أن ملّاك الأندية الأجانب يفضلون دومًا إنفاق أموال طائلة بغية الاستعانة بأسماء جديرة من الأوروبيين، الأمر الذي بالطبع يجعل فرصة الإنجليز تزداد ضآلة.. يذهب ماكلارين بعيدًا أيضًا حينما يتحدث بجرأة متناهية في عدم امتلاك الإنجليز كمدربين لسمعة جيدة خارج بلادهم، لأنهم بكل بساطة لا يفوزون على حد تعبيره..!!
وعندما عرّج ماكلارين على الحديث عن المدرب الإنجليزي خارج بلاده، تستعرض السجلات أسماء المدربين الذين جاؤوا إلى الدوري السعودي وراء أي شيء مشاع ومشروع.. القائمة تكاد تكون خاوية على عروشها في منافسة عرفت منذ ما يزيد عن الأربعين عامًا الاستعانة الدائمة بأي اسم تدريبي يمكنه صناعة أي نجاح ومن أي مكان على وجه البسيطة.. وحدهم المدربون الإنجليز الغائبون عن كل صالات القدوم في أي مطار سعودي.. وحده الراحل عبد الفتاح ناظر سار بالاتجاه المعاكس وأعطى الإنجليزي بوب هاوتون مقاليد الأمور الفنية في الاتحاد، حينما كان ناظر صاحب الكلمة الفصل داخل عرين النمور.. عبد الفتاح ناظر اسم اتحادي رائد في ابتكار الحلول الفريدة والمستجدة، والتفكير بعيدًا عن كل الصناديق المتراكمة وراء الحوائط الكلاسيكية.. جاء للاتحاد ممنيًا النفس بأن يقوده لا إلى المنافسة فحسب، وإنما لإزاحة الثلاثي المتناوب على القمم المتعالية والمتمثل في النصر والهلال والأهلي.. كان الاتحاد أكثر الأندية حينها امتلاكًا لرؤية مالية من شأنها إعادة ترتيب قطع البازل المتبعثرة بعيدًا عن أيدي نادٍ يتملك أعضاء شرف من طبقة برجوازية يليق بمن تعشقه وتحبه أن يكون بطلًا متوجًا على الدوام.. ذهب ناظر إلى طريق متعرج بحثًا عن الخلاص من أوقات الخيبات المؤلمة، وظن في حديث نفس متفائلة، أن الإنجليز يتوافقون بمدرستهم المعتمدة على الكرات الطويلة والقوة الجسدية هي الأنسب لأسلوب الاتحاد.. مجرد ظن، ولا يغني الظن عن الحق شيئًا.. لعامين مترادفين ما ترك بوب هاوتون للاتحاديين سوى بطولة كأس الاتحاد التي ما كانت ترضي غرورهم وتشبع تطلعاتهم ونهمهم نحو اعتلاء البطولات الكبيرة كالدوري والكأس.. حقق هاوتون ثاني الدوري وراء الاتفاق، وحقق ثاني الكأس وراء النصر.. لا يريد الاتحاديون أن يكونوا وراء أحد.. وما كان هاوتون باستطاعته أن يكون أمام أحد.. انتهت العلاقة كما تنتهي علاقة مسافر بمقعد طائرة نقلته إلى مدينة وصلها بلا تخطيط أو نوايا صادقة، لكنها أقدار الله..!!
بعد بوب هاوتون، وبعد فكرة عبد الفتاح ناظر.. قبل هاوتون وقبل فكرة عبد الفتاح ناظر كان المدربون الإنجليز في سباقات الدوري السعودي نسيًا منسيًا.. قبل أيام نشرت «الجارديان» مقالًا مطولًا للكاتب الإنجليزي جوناثان ويلسون، مؤكدًا فيه أن تعيين الألماني توماس توخيل مدربًا للمنتخب الإنجليزي دليل صارخ على فشل كرة القدم الإنجليزية في إنجاب مدربين كبار.. مشيرًا بقوة إلى أن نجاحات المدربين الإنجليز باتت مقتصرة على الفئات السنية! عادًا قوة الدوري الإنجليزي سببًا جوهريًا في تعطيل تطور المدرب المحلي..
قبل عامين جاء الاتفاقيون بأسطورة ليفربول جيرارد ليقود فريقهم.. خطوة أرادوا منها تحقيق ما يشبه المعجزة في منافسة الهلاليين والنصراويين.. هي ذات الفكرة الاتحادية التي جاء بها عبد الفتاح ناظر عام 1985.. الفرق الوحيد أن الرئيس الاتحادي تحسب له الفكرة الرائدة التي كان يظنها متوافقةً مع طبيعة فريقه.. في الاتفاق لا شيء يشبه شيئًا.. تتشابه الأحلام على الوسائد الناعمة كما تتشابه قطع السحب الشاردة.. مدرب الاتحاد.. مدرب الاتفاق.. تشرشل.. كلام قديم.. آخر جديد.. النتيجة واحدة.. واحدة.. المدرب الإنجليزي لن ينجح؛ لأنه لا يحقق الفوز، كما قال ماكلارين، وكما فعل هاوتون وجيرارد..!!