دوران.. اكتشاف كروي دون موعد
حتى في كرة القدم ينطبق قول الشاعر «ما أطيب اللُقيا بلا ميعاد»، الذي صاغه نزار قباني، في إحدى قصائده، لوصف لقاءٍ عابرٍ في إسبانيا ذكَّره بالماضي.
عديدٌ من نجوم ومواهب «الساحرة المستديرة» اكتُشِفوا أو وُضِعوا على مسار التطوّر دون تخطيط مسبق، وأحد هولاء الكولومبي جون دوران، مهاجم فريق أستون فيلا الإنجليزي المتألق، المُراقَب من قِبَل أندية أوروبية كبيرة، والذي اكتشفته عينٌ ألمانية بالمصادفة.
في نهاية عام 2019، حصل الألماني سيباستيان بيلزر، المدير الرياضي لنادي لوجانو السويسري، على وظيفته الأولى بعد نحو أربعة أعوام من اعتزاله لَعِب كرة القدم.
مثَّل المدافع المغمور عديدًا من الفرق في بلاده، في مسيرةٍ بدأت عام 1997 وتخلّلتها محطة خارجية واحدة مع بلاكبيرن روفرز الإنجليزي. وامتلأت التجربة، التي اقتصرت على عامٍ ونصف العام، بالإصابات ووُصِفَت بالفاشلة. لكنّ صاحبَها استفاد منها في استيعاب أجواء ومتطلبات الدوري الممتاز «البريميرليج».
سلَك بيلزر، بعد الاعتزال، طريق الإدارة الرياضية وليس التدريب، ومنحه نادي شيكاغو فاير الأمريكي الوظيفة الأولى عندما سمَّاه مديرًا تقنيًا لكرة القدم. وعقِب أشهرٍ قليلةٍ من التعيين، طار المدير إلى كولومبيا لمراقبة كارلوس تيران، مدافع فريق إنفيجادو، الذي كان عمرُه 19 عامًا.
وجَّه الألماني تركيزه نحو تيران، خلال إحدى مباريات فريق إنفيجادو الأول، واقتنع بإمكاناته، لكن أثناء المباراة دخل بديلًا مهاجمٌ شابٌ عمره 16 عامًا فقط، اسمه جون جادير دوران.
يقول بيلزر لقسم الرياضة في موقع هيئة الإذاعة البريطانية «بي بي سي»: «كنت أشاهد تيران هدفنا الرئيس في ذلك الوقت، لاحقًا نزل جون ويمكنك بالفعل أن ترى مدى جودته.. كان موهبةً خامًا.. لكن يمكنك أن ترى سرعته وتسارُعه.. كان مشكلة كبيرة للمدافعين».
عندئذٍ تغيرت الخطة، وأصبحت المهمة الكولومبية مزدوجة. ذهب المدير التقني من أجل لاعب وعاد، دون تخطيط مسبق، باثنين. تعاقد شيكاغو فاير مع تيران، لكنه بدأ أيضًا التحرك لخطف الموهبة دوران.
ولاعتبارات العمر، تأخرت الصفقة الهجومية، حتى يناير 2021، موعد الإعلان عنها، فيما انضم اللاعب بالفعل في يناير من العام التالي، فور بلوغه الـ 18 من عمره.
يضيف بيلزر في لقائه مع «بي بي سبورت» حول دوران: «من خلال تجربتي لاعبًا، عرِفتُ أنه يمتلك بالفعل شيئًا لإنجلترا، لقد تخيلت ما يمكنه فعله».
رأى المدير التقني في اللاعب الصغير موهبةً ينبغي التكتم عليها حتى إتمام الصفقة.
لكنه فوجئ بعد بضعة أسابيع من عودته إلى الولايات المتحدة بتقريرٍ لصحيفة «ذا جارديان» البريطانية عن «الجيل القادم» يكشف النقاب عن «أفضل 60 موهبة شابة في كرة القدم العالمية» واضعًا الكولومبي ضمنها.
أدرك شيكاغو فاير أن فرقًا أخرى ستلتفت إلى ما اكتشفه مرسوله إلى إنفيجادو.
يقول بيلزر «بدا الأمر مثل السباق، كان الوقت يمر بسرعة ووجدنا فرقًا أخرى تطارده، لكننا أجرينا الكثير من المحادثات مع عائلته ما ساعدنا كثيرًا.. وأخيرًا نجحنا وحصلنا عليه».
أبرم الناديان الأمريكي والكولومبي التعاقد مقابل 2.5 مليون دولار، وأعاد الأول صفقته إلى الثاني بصيغة الإعارة لعام، بسبب قوانين أعمار اللاعبين المحترفين. خلال الإعارة، كان دوران يلعب ويتدرب مع إنفيجادو، ويخضع في أوقاتٍ محددة لجلسات تدريبية صممها له شيكاغو فاير، لتعزيز تقنياته الكروية.
وفور تجاوزه عقبة العمر، التحق المهاجم بفريقه الجديد، ومثّله طيلة عام 2022. في النصف الأول من ذلك الموسم الكروي الأمريكي، أحرز هدفًا واحدًا، لكنه أحرز سبعة في الثاني، وأنهى الموسم هدافًا للفريق، بـ 8 أهداف في 28 مباراة.
أمام هذا التطور، شرعت أندية أوروبية في مراقبة اللاعب، الذي استفاد من مغادرته مسابقةً بعيدةً عن الأضواء إلى أخرى تحظى بمتابعةٍ عالميةٍ أكبر، هي دوري «إم إل إس» الأمريكي.
اقتنع أستون فيلا، أحد أشهر أندية إنجلترا، بدوران، وضغط بقوة لضمِّه، فكان له ما أراد. مقابل ذلك، دفع نحو 14.7 مليون جنيه إسترليني، مُهديًا رأس حربةٍ جديدٍ لمدربه الإسباني أوناي إيمري، الذي كان قد وصل للتو لخلافة الإنجليزي ستيفن جيرارد، مدرب الاتفاق السعودي حاليًا.
خسِر شيكاغو فاير موهبته في عامٍ واحد. لكن مديره التقني السابق يشرح أنه لم يكن ساذجًا ليعتقد أن اللاعب سيبقى في الولايات المتحدة للأبد.
مع أستون فيلا، تصاعد مردود دوران تدريجيًا. في موسمه الأول، لعِب 12 مباراة من موقع البديل، وعجز عن إحراز أي أهداف.
لكن في الموسم الثاني، قصّ ابن بلدية ساراجوسا الكولومبية شريط أهدافه، وأظهر للمتابعين مهاراته خاصةً التسديد القوي بالقدم اليسرى وحُسن التمركز والضربات الرأسية، محرزًا ثمانية أهدافٍ موزّعة بين «البريميرليج» ودوري المؤتمر الأوروبي. مع ذلك، بقِيَ بديلًا للدولي الإنجليزي أولي واتكينز، المهاجم الرئيس للفريق.
في الصيف الماضي، حاول ويستهام يونايتد الإنجليزي التعاقد مع دوران، لكن أستون فيلا رفض كل العروض وتمسك بموهبته، طمعًا في المزيد من الأهداف. وكان له، للمرة الثانية، ما أراد.
فمع انتصاف الموسم الجاري، أحرز اللاعب 12 هدفًا، وأبهر متابعي الكرة الأوروبية بجمالية أهدافه، وتأثيره الواضح في الملعب عند النزول من على مقاعد الاحتياطيين. وأعقبت ستةٌ من أهدافه دخولَه بديلًا. ومن أجملها، هدفه من خارج منطقة الجزاء، الذي خدع به الألماني مانويل نوير، أسطورة حراسة المرمى وقائد بايرن ميونيخ الألماني. وبفضل هذا الهدف السينمائي، خالف الفيلانز أغلب التوقعات وفازوا على البايرن، العملاق الأوروبي، في 2 أكتوبر الماضي، 1ـ0، ضمن دوري أبطال أوروبا.
بعد أربعة أيام فقط من الهدف، التي زاد من الأضواء المُسلَّطة على صاحبه، منح أستون فيلا نجمه الصاعد عقدًا جديدًا، يمدّد العلاقة بينهما حتى عام 2030.
وبين تاريخ انتقاله إلى أستون فيلا ولقطته في مرمى نوير، زادت تدريجيًا القيمة السوقية لدوران، لتصل إلى 35 مليون يورو، فيما تُقدّر حاليًا بـ 40 مليون يورو، لكن تقارير الصحافيين تجزم بأنه لن يغادر إلى محطته التالية إلا بأكثر من ذلك بكثير، وهو ما يتناسب مع توقّعات مكتشفِه بيلرز، الذي قال لـ «بي بي سي سبورت»: «هذا اللاعب سيكون قادرًا على الوصول إلى سقف مرتفع للغاية».