حوار الطرشان
هناك من يريد أن يتكلم أكثر من أن يسمع، والأمر سيكون أقل سوءاً لو أن ذلك مرده فقط لشهوة الكلام وليس حالة إصابة بمرض الأنا البغيضة.
كل الفضائيات تعج ببرامج حوارية وندوات ترتفع فيها الأصوات ويختلط فيها الحابل بالنابل، لكن جبال النقاشات هذه لا تتمخض عن أي شيء غير مزيد من تعميق الهوة بين المتحاورين وزيادة في غموض الأمور وتعقيد المسائل وضياع الحقائق، ولا تختلف هنا قناة عن أخرى، ولا برامج سياسية أو اقتصادية عن اجتماعية ورياضية، فالكل يصل إلى استوديوهات الحوار وقد شحذ الهمم، إما النصر أو الشهادة.
صناعة البرامج التلفزيونية شاقة ومكلفة.. وأقصد هنا البرامج التي تتوافر على الشروط المهنية للصناعة التلفزيونية وليس تلك التي نشأت وأطلق عليها مجازاً الحوارية وهي التي يعتقد معدوها والقائمون عليها والمشاركون فيها أنها لا تتعدى طاولة وكراسي وكاميرا ومايكروفونات وخط اتصال هاتفي، دور المعد فيها استعطاف بعض الأسماء لقبولهم المشاركة، ويبدأ دور المقدم وينتهي عند تقديم عبارتين وينهي بأخريين مروراً بأسماء ضيوفه، فيما لا يتجاوز عمل المخرج إشارته لفريق التصوير بالبدء وإشعارهم أن الجميع أصبح على الهواء ليبدأ معه حوار الطرشان.
الذي يتابع هذه النقاشات والحوارات الجهنمية كان يمني النفس في أن يستفيد بمعلومة ويزيد من معارفه ويستجلي غموض بعض الحقائق، وكان يتطلع إلى أن يستمع إلى رأي حصيف حكيم مسؤول وإلى رأي آخر يغير الماء الراكد ويحركه، وإلى آخر يعلن أنه اكتشف الحقيقة أخيراً وفهم ما كان غائباً عنه وحتى إلى محتج ومعارض لكن مع كيف ولماذا، الاأن ما يتم كان غير ذلك.
هل هي ثقافة الحوار الغائبة أم الجهل بما علينا قوله في مثل هذه البرامج؟ أم إنها مرحلة تؤسس منطلقاً من هذه المنطقة الرمادية إلى فضاءات أكثر نضجا ومعرفة بأصول الحوار والخلاف والقدرة على التعبير عن الرأي في ظروف نفسية وسلوكية سوية.. من يدري فقد يحدث ذلك يوماً.
*رئيس التحرير