2009-06-26 | 18:00 مقالات

كرة القدم حالة إبداع أم نتاج تصنيع؟

مشاركة الخبر      

هل يمكن لكرة القدم أن تتحول لمعادلة رياضية يمكن الوصول إلى نتيجتها بنجاح؟! قطعاً لا وجزماً أنه لو صح ذلك ما باتت كرة القدم التي يكمن في جوفها سر عصي جعل منها شاغلة الناس.. هل يمكن لكرة القدم أن تكون علماً أو صناعة؟ نعم لكن الأمر يحتاج إلى تفسير أدق وتحليل أعمق، ومن يأخذ الأمر هكذا إنما يسطح المصطلحين ويحولهما إلى استعراض لفظي مفرغ من معناه.. إذا أردت أن تعرف إلى أي مدى يمكن لكرة القدم ألا تكون خاضعة إلى أي نظرية ولا درس أو باب في أي علم أو تجربة تتحقق يمكن لك أن تستعرض بعضاً من نتائجها ولو من خلال ذاكرتك عبر أكثر من محطة زمنية، وإذا أردت ألا تجهد نفسك في البحث عن شواهد استعرض نتائج المنتخب المصري في بطولة القارات الحالية، وأضف لها نتائجه في تصفيات كأس العالم التي سبقت القارات ولا بأس أن أنتظر معك نتائجه المقبلة في تصفيات كأس العالم ومن ثم سماع أقوالك النهائية، مع العلم أنها ستتغير أيضاً في مناسبات ومحطات زمنية أو مع فرق أخرى وهكذا.
الغريب أن البعض لا يتردد في القول إنه خرج من هذه التجربة أو تلك بنتيجة نهائية مع العلم أن هناك ما ينقضها في الماضي أو سيتضاد معها في المستقبل.
لعبة كرة القدم فعل غير مستقر ولا ثابت ليس لها عنوان ولا ملامح يمكن الاستدلال عليها لمعرفتها ووضع قواعد يمكن العمل على تطبيقها لتحقيق التفوق فيها، شأنها شأن أي عمل إنساني إبداعي ولعبة تنافسية تخضع لعوامل ليس من بينها ضمانات التفوق والنصر، والإبداع البشري يتأثر بالبيئة والمناخ وتؤثر فيه ثقافة وعادات وتقاليد المجتمع، والفعل الإبداعي الجماعي يحتاج إلى نسق متوحد أو متناغم متضافر يشد بعضه بعضاً ويسد نقص بعضه البعض الآخر، وهذا الفعل التنافسي يتأثر بما يحيط به ويحركه كفعل ومؤازرة ويمكن إحباطه بقرارات غير صحيحة أو ظالمة.
ليس هناك من فرصة لخلق عالم كروي مختلف إلا بفعل واسع وطويل، أما إمكانية فصل ما يحصل في هذا العالم الكروي عن محيطه وبيئته فهو المستحيل بعينه، وتبقى إمكانية التطوير متاحة ولكن بقدر يتوازى مع مكونات العمل التطويري، ولا فرق بين من يعتقد أنه ليس بإمكاننا تغيير أي شيء وبين من يظن أن نستطيع فعل كل شيء، ولا مجال هنا إلا لمن يؤمن بالتغيير ويعرف القدر الممكن للتغيير.
ماذا يعني أن تتأهل للمونديال عن قارتك؟!
ذلك هدف يسعى له الكثير ولا يحظى به إلا القليل، و ماذا يعني أن تقدم كرة مشرفة خلال مشاركة المونديال؟.. هدف يخطط له البعض ولا يحققه إلا القلة. وكيف لك أن تفوز بكأس المونديال؟.. مسألة يفكر فيها القليل جداً من الفرق المشاركة ولا يحصل عليها إلا فريق واحد. (على مدى تاريخ المسابقةمن 1930م أحرزها سبعة منتخبات فقط)
هل يمكن أن تقيس تطورك الكروي بما تحققه المنتخبات الوطنية أم بجودة اللوائح والتشريعات والكوادر المنظمة للمسابقات المحلية وضبط التنافس فيها وقدرة تفاعل كافة أطراف العملية على خلق بيئة جاذبة للجماهير والإعلام والاستثمار، وهل يمكن للثانية أن تحقق الأولى أم أن لاعلاقة بينهما في واقع الأمر؟.. وما الذي يمكن له أن يكون أولى من الآخر نتائج جيدة تحققها المنتخبات الوطنية أم موسم كروي منضبط؟. البرازيل الأكثر تحقيقاً لكأس العالم بمواسم كروية مجهولة، وإنجلترا وإسبانيا بمواسم كروية تحت الضوء بغياب عقود من الزمن عن تحقيق الكأس لإنجلترا، وتام ومستبعد في المنظور القريب لإسبانيا، ومشاركات متقطعة في المونديال، فيما إيطاليا تتحقق فيها الحالتان بقدر غير متوازن، فهي مثلاً تحقق كأس العالم في موسم رشاوى أسقطت أعرق أنديتها إلى مصاف دوري الدرجة الثانية.
إن الخطأ الذي يرتكبه البعض هي تلك المقارنات غير العادلة سواء بين منتخبات بينهم اختلاف منهجي ولا قواسم تاريخية أو حضارية تربط بينهم أو بين أجيال تفصل بينهم عقود بما فيها من تغييرات ومتغيرات خاصة وكونية. البعض يعتقد أن اليابان مثلاً يمكن لها أن تصبح ذات شأن في كرة القدم معتمدة على تفوق تكنولوجي وصناعي جعلها في مصاف الدول الصناعية في العالم، أو منتخب الولايات المتحدة الأمريكية كقوة عالمية وعلى قدر مهم ومعها دول على نفس الخط في وضع الخطط والكوادر والإمكانيات المادية التي يمكن لها أن تقلص الفارق مع غيرهم من الدول التي تفوقهم في لعبة كرة القدم، ويمكن لهم الاستدلال مثلاً بالتطور المذهل الذي جعل للكرة اليابانية بدءاً من عقد التسعينيات والمشاركات المونديالية الأقوى للولايات المتحدة متوجة بالوصول لنهائي كأس القارات الحالية، وهذا صحيح لكنه لا يتفق مع نظرية التطور ـ إن جاز التعبيرـ التراكمي، والدليل مثلاً أن اليابان سجلت إخفاقات في أمم آسيا 2006م وحالة التغيير التي يراد لها المضي قدماً تتعثر بفعل طبيعة المنتج الذي هو في الأساس منتج إبداعي بشري نسب التأثير فيه غير محددة ومتغيرة.. لماذا هزم المنتخب المصري بثلاثة أهداف أمام الجزائر إذا كان يملك المستوى الذي قدمه أمام البرازيل؟ ولماذا تنهزم إيطاليا من مصر برغم فارق المستوى المهول وإلغاء عنصر المفاجأة؟ ولماذا عادت مصر لتنهزم أمام أمريكا رغم كل ما تقدم، وما أهمية أن تصنف إسبانيا في المرتبة الأولى عالمياً ثم تخرج على يد المنتخب الأمريكي، وكيف مثلاً نعتبر هزيمة منتخبنا أمام ألمانيا بمونديال 2002 بنتيجة (0 ـ 8) هزيمة مذلة تسبب فيها جيل كروي مهزوز، فيما كان من نسميهم بالجيل الذهبي قد هزموا من هواة ألمانيا (0 ـ 6) في أولمبياد لوس أنجلوس1984؟ وهل لو كانت لعبة كرة القدم بغير هذه التناقضات والمفارقات كان لها أن تكون اللعبة الشعبية الأولى شاغلة الناس في ضمير الأمن والسياسة.. والدجاجة التي تبيض ذهباً عند أهل رؤوس الأموال وبضاعة الحكائين الذين يحاولون التذاكي على جماهيرها حين يزعمون أنهم يملكون مفاتيح أسرارها ويصرفون روشتاتهم العلاجية لكل أمراضها في أي زمان ومكان؟!.
وهل يعني حين نقول كل ذلك أننا ننكر على الآخرين نقاداً ومسؤولين وجماهير حقهم في قراءاتهم وتحليلاتهم وآرائهم حول الكرة.. فنونها وجنونها، بالطبع لا لكننا لا يمكن أن نسكت لمن يحولون الأمر إلى فئة تفهم وأخرى جاهلة وفريق وطنيين وآخرين ضد الوطن أو لمن يصفون حساباتهم الشخصية من خلال خسارة فريق أو فوز فريق، صعود نجم لاعب أو انكساره، كذلك الباحثون عن وجاهة كرسي ثمنها بضع كلمات مزركشة ومصطلحات فارغة وهم أخطر ممن في الأصل تم التعاقد معهم من أجل قول ما يعلمونه ولا يعلمونه، لأن هؤلاء يأكلون عيشهم من مهنة الكلام، ناهيك عن البعض ممن يحاولون دفع تهم مدانون بها من خلال تصديرها للآخرين خبط عشواء، وأيضاً ذلك كله يدخل كقيمة مضافة لسحر كرة القدم وميزة من المميزات التي جعلت لها هذه الأهمية، وهذا القدر من التعقيدات التي يجعل سبر غورها وفهم كنهها لا قاعدة له، وهنا يجب التفريق أيضاً بأن ذلك يسري على ما يجري في الميدان حين تفعل حالة تجلي ما لا تفعله الخطط والاستراتيجيات، وما يحققه الإصرار والكفاح من دور في قلب المعادلات الكروية غير الثابتة أصلاً، أما التأسيس لأن تكون هناك رياضة كرة قدم من خلال المدارس والأكاديميات وإقامة المنشآت والاستراتجيات والخطط التطويرية فإن ذلك دون شك له دوره واتباع أساليب أفضل المدارس الكروية والاستفادة من التطبيقات العلمية والقياس والبحث وتطوير الفكر الكروي وغير ذلك أمر مهم لخلق بيئة كروية أفضل، لكن ذلك كله يقف خلف المستطيل الأخضر ولا يستطيع أن يفرض سلطته على الإنسان الذي في نهاية المطاف المناط به التعبير عن ذلك كله، لما منحه الله من إمكانيات فكرية ومعنوية وجسمانية يسخرها لخدمة هذه الخطط وتنفيذها عبر إبداعه وليس العكس.

*رئيس التحرير