2018-11-17 | 23:04 مقالات

قراءة كتاب في يوم العزّاب!

مشاركة الخبر      

ـ القراءة كتابة على الكتابة!. فيها يتم صَبّ كل قراءة سابقة وخبرات سابقة على النّص الجديد، يحدث ذلك بترصّد أحيانًا، ويحدث دائمًا بتلقائيّة ودون قصد. في الحالتين يحدث رغمًا عنّا. لا يمكن وجود قراءة بمعزل عن سوابق!. أقلّ الأقلّ: لا يمكنك القراءة، في عدم حضور علاقة سابقة بالكلمات نفسها.
ـ القارئ مرتبط بحبل سرّي مع اللغة، مع الحروف التي تشكل الكلمة، منذ لحظة سماعه للحرف أول مرّة، يتبعه تهجّيه، تعلّمه لكتابته في المدرسة، حيث يبدأ بمعرفة شكله وموقعه، ويقيم علاقة ما، قد لا يتبيّنها، مع رسمه وهيئته، بعد ذلك، تتناسل كل المرّات التي استخدم فيها هذا الحرف في قول أو كتابة أو سماع أو مشاهدة كلمة أو جملة، الحكايات والأفلام والأغاني والكتب والناس وعلامات الطرق، والسابقات كلها، تتداخل، ولأنها كثيرة، كثيرة جدًّا، ولأنها تزدحم في مكان ضيّق، حيث الحرف من جديد في كلمة من جديد، فإنه من المستحيل تقريبًا، ملاحظة كل ما سبق بالعين المجرّدة أو بالوعي المباشر، فقد تم انقباض وانكماش وتقليص مساحة إلى أصغر مما يمكن تخيّله أو ملاحقة أثَرِه، تمامًا مثل أن ترى الأرض من مكان بعيد جدًّا، من نجمة صغيرة في السماء، لحظتها لن ترى حتى بالمُكَبِّرات غير نقطة صغيرة، لكن وبما أنك كنت على الأرض، منها وفيها، فلسوف تتداعى أمامك لحظات ومفاهيم وأفكار وذكريات وخيالات وأشياء أُخَر، تُسهم حتمًا في تعريفك لهذه النقطة، وشعورك بها وتجاهها، غير ذلك التعريف وتلك المشاعر التي هي لسكّان الكوكب في النجم البعيد الذي تروننا جميعًا من عنده لحظتها!.
ـ قد تبدو المسألة مُعقّدة بالنسبة للحرف في الكلمة، لكنها ستبدو أيسر للفهم حين نفكر بالكلمة نفسها، وهي ستبدو أوضح بكثير حين نفكّر بالجملة، فالجملة المُعادة بحذافيرها وأحافيرها، لا بد لها من أن تعيدك إلى شيء ما، وجه قائلها أول مرّة، أو أطيب بحّة صوت لقائلٍ بها، أو ذكرى لك مع قراءتها أو سماعها أو النطق بها في لحظة ما، وعليه تتشكل علاقتك الوجدانية بها!.
ـ والمشاعر تغمز للعقل مغريةً إيّاه للمشي في دروب معيّنة، ما يمكن معه القول إنّ جزءًا كبيرًا من مفاهيمنا، شكّلته الوجدانيات أو أسهمت في توسيعه أو تضييقه!. في ودِّياته أو ضدّياته!.
ـ وجه آخر يؤكّد أنّ القراءة: كتابة على الكتابة، لا يتعلق الأمر هذه المرّة بالسوابق، بل بالحواضِر!. يحتفل العالم بيوم العازب، وأرتِّب مكتبتي، لا علاقة واضحة بين الأمرين!، يقع بين يدي كتاب جماليات المكان لغاستون باشلار، أعيد تصفّحه، وقراءة تخطيطاتي السابقة عليه. أقرأ: "المسافة، تخلق منمنمات في كل النقاط التي على الأفق، والحالِم، في مواجهته لمَشاهِد الطبيعة عن بعد، يلتقط هذه المنمنمات وكأنها أعشاش للوحدة، أعشاش يحلم بالعيش فيها"!. تكاد كلمة العازب تحل محل كلمة الحالِم!. فأستدل على معنى جديد لحريّة العزوبية وقيود الزواج، مع أن باشلار كان يتحدث عن شيء آخر بعيد "تمامًا"!.
ـ القراءة لا تجعل من شيء ما بعيدًا "تمامًا" أبدًا!. هي ضدّ "التّمام". وحدهم الذين لا يقرؤون يمكنهم الوصول إلى وهم الكمال والتَّمام!.