فن
الأستذة!
على الأستاذ أن يظل أستاذًا، وهي كلمة تعني أن يظلّ مُحبًّا ومؤمنًا بعبقريّة تلميذه، مساندًا لها، حتى وإنْ ساءه من الأمر نظرة تلميذه الهازئة به وغير المتفهّمة له!.
-الموقّر وليم بكلاند، لم يكن موقّرًا بما فيه الكفاية في عيون تشارلز داروين!. وربما كان مع داروين بعض الحقّ، فقد كان بكلاند وفي أحيان كثيرة يبدو كمهرّج، ومهرِّج سخيف أيضًا!.
-لكن داروين اكتفى بوصفه مُهرِّجًا، ولم يُذكر أنه أضاف إلى الوصف كلمة سخيف، ربما لأنه كان يرى أنّ كلمة مهرِّج فاقعة بدرجة كافية لجلب بقيّة المعاني اللازمة!، وربما لأنّ داروين كان أحد المحظوظين الذين لم يُقدِّم لهم بكلاند وجبة لحم الفئران بالبيض واللبن!. وربما لأنه تحرّج من الاستهزاء بعينيه: كان بكلاند أحْوَلَ!.
-كان لبكلاند عادات غرائبية، ففي منزله، وبهدف دراستها، كان يُسمح لحيوانات كثيرة، منها الضخم والخطر، الرواح والمجيء والتجوال على راحتها!.
-وكان يصنع بعض طاولات منزله من بقايا حيوانات نافقة ومن عيّنات صخريّة ورَوَث!. وبالنسبة لهذه الأخيرة، فإنه كان مرجعها العلمي في زمانه، اسمها العلمي يُدْوِش ويَخضّ: “النّجْو المُستحجِر”، أمّا معنى الاسم والمصطلح فخليط من المُضحك والمُقرف: رَوَث الحيوانات المتحجِّر في طبقات الصخور!.
-في ليلة من ليالي بكلاند، نهض مفزوعًا، كأنّ حيّةً قرصته!، ولأنّ ذلك لم يكن مستغرَبًا ولا صعب الحدوث، نهضت زوجته مفزوعةً هي الأخرى: ما الأمر؟، صاح بكلاند وهو يمسك بكتفيها ويهزهما: حبيبة قلبي، أعتقد أن آثار التشيروثيريوم تشبه آثار أقدام السلاحف!.
-ولمن يسأل عن التشيروثيريوم ما هو؟!، سألتُ مثلك، وبعد جهد جهيد، وبمساعدة من الصديق حمد الضوي كانت الإجابة: “اليد الوحش” اسم أحفورة تتكون من خمس أصابع من المخلوقات التي صنعت آثار الأقدام من فصيلة “الأروشوصورات”، بنات عم الديناصورات!.
-كان من الواضح أن زوجة بكلاند متفهِّمة لقدرها وخَبَل زوجها، معتادة على مثل هذه الغرائبيات!. هذا لا يكفي، من الواضح أنها كانت مُحبّة له!. نهضت معه، وبمبدأ “نشوف آخرتها معه”!، اتجهت إلى المطبخ، شمّرتْ، أخرَجَتْ الطحين وصنعتْ عجينًا!، وعلى الطاولة مدّدتْه... العجين وليس بكلاند..!.
-ولم يكن صعبًا على بكلاند إخراج سلحفاة من أي مكان بما في ذلك أُذُنيه!. أحضر السُّلحفاة، وتركها تمشي على العجين، أخذ آثار أقدامها، وقارنها بالحفريّات التي لديه، وصدق حدسه، آثار أقدام السلحفاة تطابق فعلًا المستحاثة التي كان يدرسها!.
-ولمن يسأل عن المستحاثة ما معناها؟!، بحثتُ سريعًا، والنتيجة: علم المستحاثات هو علم التنقيب عمّا طُمِر في الأرض واستخراجه. مع تحيات “طير شلوى” السيّد قوقل!.
- بكلاند الذي كان حسير البصر، وأحولَ، كان غزير البصيرة، وقد التقط بغريزة الأستاذ ما لدى الشاب الفتيّ داروين من موهبة يمكن لها أن تثمر نبوغًا عبقريًا!. لم يحاسبه ولم يعاتبه ولم يُعاقبه على نظرته الهازئة، بل أخذه معه إلى إسكتلندة في جولة بحث!.
-وللحُب طحين يصنع منه عجينًا وتمشي عليه أقدام المحبوب فتلخبطه!.
يبدو أن مَثَل أحبتنا في مصر “يمشي على عجين ما يلخبطوش”، كانت تخصّ غير الموهوبين!، وأنها مذمّة قُلِبتْ إلى مديح بعد أن مُسح أصلها من الذاكرة!، تمامًا مثل حكاية “وضْع النقاط على الحروف”!، تلك التي كانت تُقال للتأكيد على الأعجمية أو قلّة الفهم، قبل أن ينقلب معناها وتصبح “ضرورة”!.
- داروين مشى على عجينة بكلاند، ومن يومها بدأ ربط البيولوجيا بالجيولوجيا!.
- قليل من الناس يعرف بكلاند اليوم، والجميع يعرف تشارلز داروين، الذي ربما ما كان له أن يكون لولا إيمان الأستاذ به، ولولا وجود زوجة للأستاذ قادرة على صنع عجينة من طحين.. آخر الليل!.