الرواية
وشايع الوقيان!
ـ مرَرْتُ برأيٍ، في تغريدةٍ يقول صاحبها:
“حب القصص والروايات سمة بدائية.. وكل الجهلاء والأغمار يلجؤون للحكايات وليس للبراهين... ما فائدة أن تقول لي حكمة تحتاج “3 جمل” في 500 صفحة؟!. يا له من وقت مهدر. لو لاحظنا فإن الأكثر غباء هو الأكثر لجوءًا للثرثرة والسرد!”.
ـ بدءًا أكتب: ما سيأتي ذكره إنما هو خصومة بين رأيين، لا بين شخصين، وقد مررتُ على عدد من تغريدات الرجل، فما لقيت إلا أرضًا خصبة لتفهّم مثل هذا الأمر، وفي ذلك ما يثلج الصدر والحمد لله..
ـ والآن نبدأ: يا لها من تغريدة منتفخة، ويا له من رأي متورّم يظن وَرَمه شحمًا!.
ـ “حب القصص والروايات سمة بدائية”!. هذا أول العكّ!. “بدائية” هنا تحضر كتهمة!. إنها لا تخلو من حقيقة، ولذلك هي أسوأ!. إنما يكون الزيف أخطر ما يكون حين يأتي متطيّبًا بعطر حقيقة!.
ـ حب القصص والروايات فطرة، أو يكاد يكون فطرة، ومن هنا تكون “بدائيته” حقيقةً!، لكن ولأنه فطرة، أو يكاد، فإنه حب أبدي، متجدد مع كل إنسان في كل زمان. فإن لم يكن فطرة فهو غريزة، فإن لم يكن غريزة فهو حاجة، يستشعر الإنسان أهميتها وضرورتها منذ الصغر!.
ـ لا أظن الإنسان قادر على الاستغناء عن القصص أو تجاهلها. وعندي على ذلك دليل طريف: صاحب هذا الرأي الذي نتحدث عنه، غرّد بعده بمسافة قصيرة، في محاولة للدفاع عن رأيه فكتب: “قبل أكثر من ألفي عام وثلاثماية طرد أفلاطون الشعراءَ من مدينته الفاضلة.. وقسا عليهم وشنّع على شعرهم. لم يغفروا له منذ ذلك الحين... ولم يختف الشعرُ ولا الشعراءُ. ولكن أفلاطون بعث روحاً نقدية لم تنطفئ جذوتها حتى اليوم”.
انتهت التغريدة، والتي بدأت بقصّة!. لقد حكى لنا شيئًا من حكاية أفلاطون والشعراء!. كانت قصّة إذن، وكان لا بدّ منها!. ولم يكن استدراجه لها “بدائية” بالمعنى الهمجيّ الذي أراد تمريره علينا في التغريدة الأولى!.
ـ ننتقل لسطر آخر: “وكل الجهلاء والأغمار يلجؤون للحكايات وليس للبراهين”. وهذا صحيح أيضًا، لكنه صحيح ناقص!. وليس أخطأ من صحيح ناقص بتعمّد الإقصاء!. نعم، “كل الجهلاء والأغمار يلجؤون للحكايات”، ذلك لأنهم من الناس في نهاية المطاف!. والحقيقة أن كل الناس، بمن فيهم العقلاء والنوابغ يلجؤون إلى الحكايات أيضًا!. ولو أن الإنسان يكتفي بالبراهين لما احتاج للغة غير لغة الأرقام والمعادلات الرياضية!. أو لاحتاج كل إنسان لمعجزة إلهيّة تتنزّل عليه خاصةً يرى بها برهان ربّه!.
ـ اللغة كلها حكاية، والكلام كله قصص!. نحن حين نقول كلمة “أسد” مثلًا، فإننا لا نرسم حرف الألِف ذيلًا له، وليست “السين” مخالبه ولا أنيابه، كما أن “الدّال” ليست صورة فوتوغرافيّة لفمه بعد الزئير!. إنما نقول “أسد” فتحكي لنا هذه الأحرف متتابعة ومرتّبةً، قصّة الأسد!.
ـ وفي القرآن الكريم: “نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ”. انظر مَن القاص هنا ومن المقصوص عليه؟!. ثم تدبّر في قوله تعالى: “أحسن”. إنها صيغة تفضيل، تدل على وجود الحَسَن!. هذا الحَسَن من القصص هو ما يقوله الناس للناس!. وعليه فإن القصص درجات في الحسن، وما دامت درجات، وما دام فوق الحَسَن أحسن، فإن تحت الحَسَن ما هو أقل!. وحين نتجه لأمر فيه درجات فمن الظلم أو الجهل اعتبار “الأقل درجة” أساسًا للنظر والرأي والحكم والقياس!.
ـ نأتي الآن إلى: “ما فائدة أن تقول لي حكمة تحتاج “3 جمل” في 500 صفحة؟!”. من ناحية: هذه مسألة نسبيّة!. فلو هيّأ الله لإنسان أن يجمع لنا حكمة تضم كل حكم الكون من بداية الخلق إلى ما بعد يومنا هذا، لكان من الغباء اعتبار الـ “500 صفحة” عملًا طويلًا، ولعُدّ من عبقريّات الإيجاز!. ومن ناحية: من قال إن أدب القصص والروايات مبتغاهُ الحكمة؟! أو الحكمة فقط؟!. وحتى لو افترضنا ذلك فإن عظمة هذا الأدب كامنة في سعيه لتعليمنا الصيد وليس لإعطائنا سمكة!. عبر الروايات والقصص لا نتعلّم الحكمة، إنما نتعلّم كيف نتعلّمها!. بحيث نصبح قادرين على الوصول إليها، على اقتناصها، كلّما احتجنا لها في أي أمر وتحت أي ظرف!.
ـ أخيرًا: صاحب التغريدة هو الأستاذ شايع الوقيان، وهذا هو رأيي في رأيه، وليس رأيي فيه هو شخصيًا!. له كل التقدير والاحترام والمحبة، وله كذلك الحق في أن أذكر له تغريدة ثالثة، تكشف ملمحًا إنسانيًّا عذبًا فيه، يقول فيها: “طرحتُ رأيي.. وطرح الناس رأيهم.. طلعنا من جو الكورونا. ألقاكم في موضوع جديد”. ليته أوقف تغريدته عند هذا الحد!. كاد كرمها يضيع بما زاد عليها!.