شغف!
- أن تجري كل صباح دون أن يكون ذلك سباقًا. أن تمارس أي نوع من الرياضة، بشكل يومي، أو شبه يومي، دون أن تكون تلك مباراة أو تجهيزًا واستعدادًا لها. أن تفعل ذلك بسبب استمتاعك بالأمر، وليس حتى لتخفيف وزنك أو ضبط نسبة السّكّر في جسمك، هكذا ببساطة: لأنك ترغب في ذلك ولأنك تجد في الأمر متعة، مع الامتنان للطبيعة التي فطرها الله سبحانه من حيث تكدّس منافع عديدة، ومن حيث إنك لا تضرّ ولا تسيء لأحد بممارستك لهوايتك. هذا، بالضبط، ما يمكن قوله عن القراءة، وهو، بالتحديد، ما يجعل منك مستحقًّا لصفة: قارئ!.
- لحظة، لحظة!. أعتذر!. “بالضبط” و “بالتحديد”!. ما هذا الحماس المتهوّر الذي أكتب به؟!. حلم حياتي أن أتخلّص من دوِيّ مثل هذه التأكيدات في كتاباتي!.
- كل ما أردت قوله هو أنني حين أقول كلمة “قارئ” فإنني أخصّ بها الأشخاص الذين لهم مثل هذا الميول من حيث الرغبة والشعور بالمتعة لمجرّد القراءة. أولئك الذين لا ينتظرون أكثر من المتعة عبرها، دون رفض لما يمكن للقراءة تقديمه لهم من نتائج أخرى طيّبة كالمعرفة أو التّعلّم، أو الحصول على رأي مؤيِّد!، أو تصيّد الأخطاء والهفوات والمغالطات!، أو السعي لكسب مرتبة وظيفية أعلى، على شرعية كل ما سبق، وعلى نُبل بعضه!.
- دعك ممّن يتجهون إلى القراءة وهدفهم البهرجة الإعلامية المتنطّعة، فهؤلاء خارج الحسبة تمامًا!. هل قلت “تمامًا”؟! أعتذر، وأرجو اعتبارها محذوفة ومُلغاة: “ها قد بدأت أتعلّم، وأتخلّص من أحد عيوبي: الحسم”!.
- ينقل لنا “مانغويل” رأيًا، ولا أروع، منسوبًا لـ”فرجينيا وولف”، يكشف بفطنة رشيقة، الفرق بين شخص يحب التّعلّم وشخص آخر يحبّ القراءة:
- المتعلّم: “شخص كثير الجلوس، متوحِّد تمامًا ومتحمّس، يبحث بين الكتب لاكتشاف بعض ذرّات من الحقيقة، التي تملّكتْه الرغبة في الوصول إليها”، لكن و”إذا ما حدث وأنْ قهره شغف القراءة، فإنّ كسبه سيتضاءل ويتبدّد بين أصابعه”!.
- القارئ، ومن جانب آخر، والكلام لا يزال لفرجينيا وولف: “يجب أن يكبح رغبة التّعلّم من البداية، في حال بَسَطَتْ المعرفة نفوذها عليه بشكل تام، وثابر على ملاحقتها، وعلى القراءة بشكل منهجي حتى يُصبح اختصاصيًّا أو حُجّةً، فإنه سيُجهِض أكثر الأهواء البشريّة بقراءة صافية ونزيهة”!.
- قطعًا، “يا لهذه الـ”قطعًا” التي لا تريد أن تفارقني، مذكِّرَةً إياي بغروري كلّما توهّمت أنني تخلّصت منه!”، تعتبر القراءة واحدة من أهم وسائل المعرفة، ومن أكثرها قدرة على اختصار الوقت في سبيل الوصول إلى الدّراية وتقليل الغفلة والرّعونة!، كما أنّها وسيلة شريفة لمثل هذه الرغبات الكريمة النافعة. غير أني، وأعترف: حين أقول قارئ، فإنني لا أعني بها أكثر من ذلك النوع من البشر، الذي يجد في القراءة غاية بحد ذاتها، وليست وسيلة لأي شيء آخر!.
- ثمّ إنّ القراءة لمجرّد القراءة، أي حين نقوم بها فقط لأن ذلك يستهوينا ويحقق لنا متعة ويُكسبنا لذّة، مسألة لا تحجب أي من تلك الفوائد والمنافع المهمّة والمرجوّة، على العكس تمامًا، تزيدنا ثراءً وخصوبةً وتدفّقًا في التّأمّلات الفلسفية والجماليّة. أظنّها تفعل ذلك أضعافًا مضاعفة!.
- ليس عندي دراسات ولا إحصائيات تدعم ما أذهب إليه في هذا الشأن!. أنا فقط أتحدث عمّا أحسبه خبرات شخصيّة، فإن صح اعتبارها كشهادة على أمر، فبها أشهد أنني لم أعرف في حياتي قارئًا، تستهويه القراءة لذاتها، إلا ولقيته خفيف ظل، متواضعًا، رحبًا، مُحبًّا، ومتفتِّحًا!.
- في المقابل، عرفت عددًا كبيرًا ممّن قرؤوا، ويقرؤون، لأسباب معرفية وبحثية وتعليميّة ووظيفيّة، وأسباب أخرى كثيرة متفرّقة، ولم أجد، في غير قلّة قليلة منهم، خفّة الظِّل، ورشاقة الفكر، والبساطة والتواضع!.
- لولا هذه القلّة القليلة، والتي يمكن الإشارة إليها بشخصيّة مثل “إبراهيم حامد الخالدي” الذي ترتسم صورته أمامي الآن، ربما لفرط ما أعرف عنه ولحجم الودّ وعِظَم الصداقة، وليس لأنه الوحيد!. أقول: ربما، لولا مثل هؤلاء، لاقتنعت بما يقوله كثير من الناس عن القرّاء، بصفتهم ثقلاء طينة، مرضى تعجرف!.